كانت الدنيا غائمةً غيمَ آخر الصيف. غيمٌ موحش آخرَ الصيف، دكنة السماء تكشفك، تذكّرك بالنهايات منذ الطفولة.. وريح ممتعضة جَموح، ريح دخيلٌ واضحة. اجتمعنا بسياراتٍ خمسٍ أو ستّ.. من يَذكر!؟ جلسنا نحيط بالضحك، ويحيط بنا حُزنٌ عارِف. يشدّنا ضحكٌ غريب نصنعه مثَل مَسخ، نتقصّد ذلك، بأكثرَ من يدٍ تكاد تفلت وبرأس متدلٍّ جريح وقد غرّزنا فيه أسافينَ وإبرًا بعيون سكرى. بعيون تقهقه أنهارًا من دمع، كنّا نصنعه وندفنه.. لأنّا بعد قليل نصنع آخرَ غيرَه، نتلقّفه، نعضّه ككلابِ حيّ، نحترفه كمهنةٍ كلعبةٍ فيها نقاط، ثمّ نمدّده بيننا مثل كلب الرفاق، نمدّده مثل واحدٍ منّا. لم يكن الضحكُ، كلبُنا، سوى نفخ أرواحنا الهزيلة في ما قدرنا عليه.. لأنّا لم ننفخ أمجادًا، لا ولا نفخنا في الزجاج؛ زجاج العمل، ولا حفرنا صخرنا. لقد وُلدنا بلا أيدٍ ومخالب، لذا قرّرنا أنّ ما يناسبنا كلبٌ مذهّبٌ سلوقيّ نحيل ممشوق منتصب بيننا، تأتي عليه الريح فُيذَرُّ ذهبُه في وجوهنا وأعيننا الجريحِ فنطيش ونُمتَّع. كنّا نكشف صدورنا له مثل عشّاق لعلّه يصل إلى الأعماق، حيث برك هادئة برعب، برك تقطر فيها بانتظام صرخاتٌ مضغوطة صارت ماءً وبجانب البرك شريدٌ غافٍ في البرد "جُوّا"، ميت ملتحفٌ سبعةَ مناماتٍ في قلبها قلبُه الصغير كحبّة خردل، ششش... لا يزال ينبض.. ينبضُ سبعةَ منامات وجثّةً هامدةً، قطراتِ ألم، وفجوةً مرعبةً لا يصلها الضوء إلّا قليلًا، وصولًا إلى الخارج حيث وجهٌ يضحك، وبجانبه كلبٌ من ذهب صنعه ليُحيي حبّة الخردل تلك. نعيد ترميم ما أُهبِيَ من هبائه، نعجنه بالأيدي لتدفأ قليلًا، قليلًا فقط لأنّ الأيدي باردة وتهتزّ يا أصدقاء.
(الفنان الهولندي لاسلو أنتار _ 2021)

أشعلنا نارًا، وجعلنا فوقها أقراص اللحم وما يُحرَق.. أشعلنا نارًا أشعلناها آلاف المرّات، واختلفنا على قيادتها وإدارتها كلّ مرّة. ودارت الموسيقى، ودار كلبُنا بيننا، دار كثيرًا لأنّه كان يبقى حبيس المنازل لفترة تطول عن الأسبوع أحيانًا، فيفلت عارمًا وقد رصدنا لإطعامه أفكارًا وصورًا كثيرة.. وجلسنا نأكل ونطعمه ونهمهم. أذكر أنّنا كنا نتداول، مثلَ عُملةٍ، حيواتِنا. ماذا صنعنا؟ مَن نحن؟ ماذا علينا فعله؟ أين أخطأنا؟ وكيف السبيل إلى الخروج؟ وما الدواء، ما دواؤنا بالله عليكم كنت أشدّهم من أكمامهم! كنّا نخلط الأوراق نفردها ونَلعبُها، وعند موازينَ مختلفةٍ أطوالُها جلسنا تُضحكنا وتُبكينا الفوارق: هل تأخّرنا؟ كم تأخّرنا؟ هل عجزنا؟ من يحمينا من التكرار تكرار الآباء؟ والجَمع؟ من ينقذنا منّا؟ من يعيد إلينا ما ابتُزّ من حقّ وجودنا؟ وكيف سيُستعاد؟ اجتمعنا مثل مساجينَ أُعطبوا تعوي في دمهم ذئابٌ مُسَّت حتى قاع أرواحها وتنازعت لحمَها تحت أقمار أخرسها غيمٌ كثٌّ، تريد الخروج والانعتاق. وحولَ نار مقدّسة، نارِ العشرين حتى أطراف ألسنة الثلاثين جلسنا القرفصاء واضعين أكفّنا، مداورةً، ليقف بعضنا عليها ويمدّ رأسه من كوّة في جدار حياته ويرى ماذا هناك: وحين يعود كنّا نبكي بكاء الرائين ثم نضحك ضحك المنكرين، ثم تفحّصنا أيدينا التي لم تكتمل، تفحّصناها بكَدَر.
لقد تساءلنا: لمَ وُلدنا بلا موضوعات؟ موضوعات الحياة. من اختطف الأب؟ ومن تلقَّفَنا إثرَ ذلك؟ مرايا المساجد النقيّة التي تأخذك إلى الذات، والطبيعةُ الخاليةُ من المصانع أو أسواق المكر. لقد غاب الموضوع، وغفَونا عن الخارج: صرنا مواضيع أنفسنا، لنستيقظَ، بدرجات مختلفة، في الداخل. ثم لنستيقظ يقظةً أخرى على كلّ هذا! ولذلك فكّكنا أنفسَنا مثل أسلحةٍ مألوفة مثلَ ألعابٍ عقليّة بخفّة، بعد أن دوّرناها وتفحّصناها مُحنينَ رؤوسنا كميكانيكيّ يكاد يَخبَر. وكثيرًا بكينا، وطويلًا شردنا شرود من أذهله خروجه من المنزل بلا "كتالوغ"، بلا دليل يدلّه. لذلك وقفنا طويلًا عند حواف البرك والأنهار قبل أن نقفز ويدفع بعضنا بعضًا: ماذا تنتظر؟ لم يعد الكثير من الوقت! وفغرنا أفواهنا دهشةً ذات لحظةٍ حين أدركنا أنّ الحياة تُصنَع وتُخترعُ اختراعًا ولا تُأخذُ كما سُلّمناها. ما سُلّمناه لم يكن أكثرَ من ظَرفٍ فيه اعتذارٌ شديد يقول: هاكَ بُنيَّ صورتي محاولًا أن أعبر الخطّ. ذاك أقصى جُهدي، فلتحاولْ قفزتك أنت، ليكن قفزك مباركًا ليكن قفزُك محقًا، ليكن قفزُك شافيًا. لم تكن الحياة التي ورثناها سوى نموذج أو مَثَلٍ غيرِ مُلزِم. ومع ذلك، فهو جنينٌ يحمل لك ملامحَ ستقفُ أمامه هنيهةً تأخذ منه ما تريد وتتركه دون رحمة لأنّه غير قابل للولادة، تأخذ منه رئة وكبدًا وعينًا لا تزال تبحلق بإصرار.. ثم تمضي كرجلٍ مأكولِ الأطراف والأعضاء تلتصق بالوجود الفوّار بحممِه فتحترق طويلًا حتى البكاء، تتشظّى وتلتاعُ وتُكوى، ثم تعودُ رافعًا فمك ورأسك عنه منفصلًا ومستعدًّا لتكون، ثم لتحتضن شبه الجنين ذاك من بعدُ.
كان بعضنا يبرّد عقلَه بعلوم باردة كالفيزياء والهندسة فتبرد نفسُه، فتبتعد به عن محارق الأوهام ومطايرها القاتلة، عن غابات الأوهام وبساتينها الوارفة فوق الرأس: ما الذي يُجنى منها؟ الشعرُ والفلسفة والبصائر، لكن أكثر: تأخذك إلى زواريب الداخل المرعبة وأقبيتها الموشومِ على جدرانِها المعتمةِ أكوادٌ وأسرارٌ مُغبرَّةٌ بِكرٌ، تفتحُ خَزناتٍ فيها خرائطُ حقيقتِكَ المخفيّة المخيفة. هناك لا يعود الخروج كما الدخول.
كنت أقف في طرف ورفاقي في طرف: هم يكتشفون أقسام الواقع وغرفه في العمل والأدوات، وأنا أكتشف غرف العقل والنفس وأتلمّس بيديّ حواف سراديب البرازخ. ولذا لم نكن نتحاور أو نتسارُّ بل نتنادى من قطبين بعيدين نقيضين هما كمال المسألة وعمود الجمع أو واسطة العقد. وتلك القطبيّة النقيضة خلقت مسافة ومدىً بيننا متصلًا ومطلوبًا: كان يدخل في الشلّة مَن يدخل ويخرج مَن يخرج، كطيرٍ على ماء تجرّب اللجوء والإقامة بيننا، لأنّا وسّعناها سعةً مغرية بجدل متضادّ عنيفٍ وجذّابٍ.. كلّ هذا يحدث بين حقول التسليم والإذعان السائدة، فلمعت "قُرطتنا". وأغناها ما كان يزعجنا أحيانًا: تناقضنا واختلافنا غير المرئيّ أو المصرّح به.
أكلنا وشربنا وتمدّدنا كبغال تعبت دون كدّ. وعدنا إلى كلبنا الأثير، ضَحِكِنا المباغتِ بألف حركة. كلبٌ مستلٌّ من طرافة الخيال المفاجئ والعقل المُدَّهي (أي المدّعي الدهاء). نظر بعضُنا كثيرًا في وجوه بعض. لم نكن نعلم ونحن في عزّ قُربنا أنّ اجتماعنا طوال تلك السنين معًا كان تمامًا كلحظة تسامرِ مسافرينَ كلٌّ قد رَكِبَ مركبَه في ميناء قبيل فكّ حبال القوارب، متناسينَ لحظة الرحيل وأنّ أيًّا منّا قد يُبحر في أيّ لحظة، فقد كانت حياتنا معًا استعدادًا لأوّل موجة مغادرة، كانت حياتنا عناقًا طويلًا مسبقًا لرحيل لا بدّ منه. كانت الأقطاب تستعدّ لأن تنجذب إلى ما عرفته قبل ولادتها، إلى مراتبها وبيوتها الحقيقية، إلى أنفسها وحدَها. أمنجذبةٌ أيتها الأقطاب؟ إلى أين؟ أعرفك جيدًا، إلى حيث يصبح نوركِ أقوى من وَهج الخارج، ويصبح كَونكِ المصغّر مكافئًا، بل أكبر من الكون الكبير الذي يُسمّى الحياة. لتصبحْ كاملًا أيها الطفل بعينٍ نصفِ خائفةٍ ربعِ حائرةٍ بعضِ قَلِقَة. لتقتلعْ لك يدين من الأرض الحبلى بخردة الأيدي والأرجل والأطراف، ولتشدَّ بهما ثمارًا تضيئك وتُثبتك، بل تُعبِلُك، أيها الروحُ التي تتنسّم هواءً أعلى يُكملك. أو أقلّه إلى حيث تكونُ أنت، إلى المياه التي تشبهك. لقد ذهب بعضنا إلى حيث يشبهُه مكوّنًا عائلة ساربًا في دربه البيّن، وبعضنا لا يزال آخذًا على عاتقه أنه لا يريد الإقامة إلّا في أقصى ما يستطيع الوصول إليه: يريد أن يرمي أوراقه الباقية في المقامرة على صنع كرةِ روحٍ كبيرةٍ فيها كلّ شيء وتعرف كلَّ شيء، تريد أن تسمن وتبتزَّ الوجود وتباهيه. ويخاف في الوقت ذاته أن يُنجزَ تمامًا، إذ تعتقد كريات دمه العمياء بالوجود أنّ لذّة وجوده تُستهلَك إذّاك، وحينها سينزل عن مركبه، سيُخلي الأمكنة للقادمين.
كنّا ننظر في وجوهنا ونُفلت أسئلة رابضة في أعماقنا كصقورٍ محمومةٍ حلمت بفرائسها طويلًا، ثم أُفلتت في الهواء.. صقور خفيّة تطارد المعنى معنى كلٍّ منّا، تريد أن تقبض عليه: ما مُنجزك؟ ما دورك هنا؟ من أين جئت: وما مواهبك؟ ما ذلك الاختلاف؟ هل سينتهي هذا مثل أيّ قصّة مؤلمةٍ دون وفاءٍ؟ أم أنّ الحياة أقسى من شعور؟ متى ينتهي؟ ما الذي جمَعَنا؟ متى موعد الرحيل؟ هل اختبرنا الصداقة حقًا؟ كان الأوفياء كثُرًا. كانت تنطلق لتعرف من نحن، تحفر مخالبها في أعماق أعماقنا التي تنبض كحبّات خردل، تنبض وتغفو، تنبض مناماتٍ يعلق بها حالموها.. ونبدّدها بأنخاب النزهات ومَوجها الذي غشّانا طويلًا، وبأنخاب الصداقة الحلوة.
جلسنا مثل كلّ مرة وبيننا حمائم الشَوق.. سهرنا، تمدّدنا، تكلّمنا وضحكنا.. أنا لا أكتب الآن أتذكّر: أيدٍ فوق النار تستدفئ ووجوه تُبدَّل تحت ليل داهَمَنا برضى، وأيد من الداخل تخلع أجسادها وتبقى أرواحًا، وأرواحٌ غطّت وسريعًا طارت وعبرت.. تلك اللحظة من الانجذاب إلى النار، أكثر اللحظات أسىً وحقيقيةً، وأُنسًا رغم كلّ المآسي. أنس النار يسري فيه أنس الصداقة، مهما يكن تلك اللحظة لن تغادرك أبدًا. لحظة من طراوة العمر، مما قبل التغيّرات الكبرى، ممّا قبل المغادرات. لحظة أولاد البلد الذين يعرف بعضهم بعضًا مثل سمك البركة، أولاد الحارة كبروا يا صاحبي! الأولاد الخجولون المستترون بالابتسامات، المهمّشون لأنّ آباءهم ما دعّوهم إلى الحياة دعًّا، المنتقمون من ذلك "بتخميسات" على "بحص" مُغرٍ، الطيّبون، الأذكياء، الاختبارات الذين لا يعرفون أنهم اختبارات بل ظنّوا وتوهّموا طويلًا أنهم مُنجَزون وأنّ الحياة لا تحتاج إلى نَحتٍ، حتى نُووِلوا أطباقًا وموائدَ من صفعات الحياة المُدمية.