أعيد تسخين الأرزّ والخُضر المطبوخة. أسكب مقدار ملعقةِ طعام من كِلتا الطنجرتين في صحني ثم أضعه نصب عينَيَّ. معدتي ترفض الطعام بشكل قاطع. لقد مرّت أيام نسيت فيها تناول وجباتي اليومية. أشعر برغبة في التقيؤ. أُسرِعُ الى الحمام محاوِلةً إفراغ معدتي، لكن لا شيء! إنها فارغة وعليّ التعامل مع هذه العوارض. أعود وأرمي الطعام في فناء المنزل.في بلدنا، من غير الممكن إيجاد طريقة للهرب من الواقع الذي بدأ بمحاصرتنا على مهل، وها هو الآن يُسقط جدرانه الإسمنتية علينا قِطَعاً دون توقف، وكل ما نفعله هو الركض خوفاً وهرباً من السحق. الواقع ملموس. يمكننا لمس معاناتنا؛ الواقع بحروبه وانفجاراته ومشاكله، في أجسادنا معلقةٌ شظايا الأحداث، إذ يتشوّه الأفراد ويُعاد رسم ملامحهم بعد كل كارثة فيه، كأنّ للعالم يداً ربانية تظل تُشكّل وتدمر هؤلاء المساكين. أخرج إلى الشارع لأستنشق القليل من الهواء ولأزحزح نظري عن الأخبار التي تتكوّم داخل الهاتف. أتركه وأغادر. أصطدم بطابور طويل متراصّ أمام محطة وقود، سيارات تراكم عليها الغبار، مضى على وجودها أسبوع في الحد الأدنى. المشهد الأول صفعات الواقع المتتالية. أكمل السير فيتراءى لي أن معالم المكان قد تغيّرت، كأنّي لم أعد أعرف الحارات التي سكنتها لسنوات. زوايا الأزقة شبه خالية من الناس. فيما مضى كان يتجمّع هنا الأفراد، فتملأ أصواتُهم الحي. أما الآن فيتناثر البعض هنا وهناك، وهم شبه صامتين تكاد لا تلحظهم. المتاجر باهتة؛ يطفئون الأنوار لقلة الكهرباء ولارتفاع سعر اشتراكات المولّدات الخاصة. أدخل إحدى المكتبات: النور خافت، بالكاد استطعت تمييز بعض العناوين. لمبة واحدة وسط السقف. كومات الكتب غير مرئية، وأنا؟ من أنا الآن؟ شخص لا ظلال له، شخص غير موجود!

(رسم: فرانسوا الدويهي)

الضوء والظل لعبة قديمة لإثبات حقيقة الأشياء. سرت بخفة وصاحبُ المكتبة العابسِ دائماً، منشغل بفواتيره، يود إنهاءها قبل أن يختفي آخر خيط من شمس النهار. أستغل انشغاله قبل الزوال، وأزيح بأطراف أصابعي كتاباً من أعلى الكومة مسقطةً إياه بخفة داخل حقيبة يدي، وأسير نحو الباب. من يكترث؟ لن يلاحظ أحد اختفاءه، أنا جان فَلْجان. الواقع لديه قدرة على منحنا تعريفاً ذاتياً يخصّه، هوية واضحة باسمٍ وصفات. إنه يكتبنا ويدفعنا لتقمّص الشخصية المناسبة.
أصبح النهار على مشارف النهاية. مع غروب الشمس تتوقف حركة المدينة كلياً، وتدخل في شلل ليلي. يقطع نهر واسع وعميق مدينتنا الصغيرة ويفصلها عن غابة شاسعة. أسير غرباً، ثم أرتاح قليلاً على الضفة تحت شمس منخفضة تتدحرج مسرعة خلف الغابة، محدّقة في سرب الطيور المهاجرة. أصبحت علاقتنا قائمة وداع نهائي، لم يعد بإمكاننا بناء علاقات تتسم بالأمان والاستقرار. هكذا يزداد عدد القلوب الممزّقة المرمية على الحواف، تنتظر انجرافها الأخير.
يرتدّ نظري إلى النهر، واحمرار الشمس مستلقٍ على صفحة الماء، أعمدة الإنارة لم تشتغل بعد، فلقد نَفِدَ مصدر الطاقة من المولّدات.
لقد أضاءت مصر القديمة مملكتها قبل الميلاد وأخذت باقي الحضارات المنتشرة بعدها تضيء شوارعها من خلال قناديل فخارية تعمل على الزيت، أما نحن، في الحاضر، فيحيط بنا الظلام كأننا نعود في الليل إلى العصور البدائية. تتكثف الظلال، وضوءُ القمر يشعّ غيرَ مجدٍ، بإضاءة عبثية. أسير حافية القدمين، هكذا أستطيع أن أتحسّس الممر الترابي الذي سيوصلني إلى الشارع. أمشي بخطوات بطيئة، يبدأ دم خفيف يسيل من كعب قدمَيَّ، أشعر بالرطوبة مع كل خطوة. مرّ وقت قد يكون طويلاً قبل وصولي إلى الشارع الأساسي. ثم أكمل الطريق متّبعةً همسات السكان المتراكمين على شرفاتهم.
الناس يتكدسون على الشرفات لالتقاط نسمة عابرة من الغابة إلى المدينة، ولكنّ الأيام الحارة هذه، وكأنّ الصيف أداة للخنق فالموت البطيء، يقضي على أرواح الناس...روحاً بعد روحٍ. مشيت عبر الأزقة إلى منزلي والطرقات موحشة مخيفة، لا صوت إلا خطواتي السريعة الواضحة تماماً، وأنفاسي التي تتصاعد حارّة وسريعة.
الطريق المؤدي إلى المنزل مقفل ببعض البراميل التي يتصاعد منها دخان وكأنّ ناراً أطفئت للتوّ، يظهر شيئاً فشيئاً رجلٌ من الخلفية، ارتعبتُ، تجمّدت مكاني، ماذا حدث؟ لمَ الحرائق تشتعل هنا في شارعنا؟ تبدّى الرجل المترنّح وبدأ بالاقتراب من البراميل التي تفصلني عنه وصرخ: هل توقّف حريق الأمازون؟؟
أجبته بتلعثم: صباح الخير! ثم ركضت نحو المنزل.
وصلت، دخلت مسرعة، أحكمت إقفال الباب واختبأت، أريد أن أحتمي من كل ما يدور في الخارج، كأنّي بجولتي هذه عبرتُ وسط وكر تنّانين نائمة قد تستيقظ لحرقي. تيقنت أن حياتي قد سُلبت مني.
أتأكدُ من أن النوافذ محكمة الإقفال، أنير قنديلاً، كما لدى المصريين القدامى، وأبقى الليل بأكمله أراقب احتراق الفتيل، هكذا حتى بزوغ الفجر، ثم أنام.