في مطلع الشهر الجاري نشرت «الأخبار» خبر «اللقاء المعجزة» بين رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك وولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في الرياض، بوساطة روسية. صمت ثقيل ساد قبل أن تؤكّد صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية خبر اللقاء بعد يومين، نقلاً عن مصادر سورية في دمشق، وتلاها معهد «ستراتفور» الأميركي، فيما التزمت الرياض الصمت حيال الاعلان عن الزيارة المحرجة، وتركت مهمة التشكيك لحلفائها ووسائل اعلامهم.
الجمعة الماضي، كتبت صحيفة «اللواء» القريبة من الرياض عن «حقيقة زيارة مملوك إلى جدّة» نقلاً عن «إعلامي سعودي موثوق». ونقلت صحيفة «الحياة» السعودية، في اليوم التالي، الرواية نفسها عن «مصدر سعودي رفيع». و«طيّبت» لهما صحيفة «المستقبل»، في اليوم نفسه، نقلاً عن «أوساط ديبلوماسية دولية وعربية ومحلية» تحدثت عن «دقّة هذه المعلومات وشفافيتها». بدا واضحاً من النصّ نفسه الذي نشرته «اللواء» و«الحياة»، أن بياناً مكتوباً وُزِّع على الصحيفتين، وأن الأوامر أُعطيت الى السيمفونية الاعلامية التابعة للمملكة بتأكيد حصول الزيارة، ولكن مع تقديم رواية غير متماسكة حول ظروفها.
وللتأكيد على «الشفافية» تضمّنت الرواية إشارات الى تفاصيل لا تغيّر شيئاً في جوهر الأمر، مثل القول إن اللقاء عقد «في جدة وليس الرياض»، وإن مملوك لم يصل مع الوفد الروسي على الطائرة نفسها، مع لوم واضح لدمشق واتهامها بتسريب خبر اللقاء المحرج. أما مضمون الرواية الضعيفة فهو أن الزيارة جاءت بناء على مبادرة سعودية، وليس روسية، لإثبات حسن النية و«تعرية (الرئيس بشار) الأسد أمام الروس، وكشف حقيقة مَنْ يدعم الإرهاب في سوريا»، وأن السعوديين اقترحوا التالي: «نوقف دعمنا للمعارضة، في المقابل تُخرِجون حزب الله وإيران والميليشيات الشيعية المحسوبة عليها من سوريا، وبذلك يكون الصراع أو الحل سورياً ــــ سورياً، ونبارك ما تتّفقون عليه»، ليردّ مملوك متسائلاً: «كيف نتصرّف مع حزب الله؟ أعطونا فرصة نفكر»!
الردّ الأولي جاء من داخل المملكة عبر تغريدات المغرد السعودي الشهير «مجتهد» الذي كشف «اتفاق إماراتي مصري أردني عماني على إعادة تأهيل النظام السوري، ومحاولات حثيثة لإقناع السعودية بالموافقة على الخطة». وقال «مجتهد» في تغريدات نشرها مساء الجمعة إن الدول الأربع تفاهمت على أن «صاحب القرار الذي يمكن الحديث معه في السعودية هو محمد بن سلمان وقد بذل محمد بن زايد جهدا حثيثاً لإقناعه». وأضاف أن «لقاء بن سلمان مع علي مملوك جزء من هذا الترتيب، وقد طلب بن زايد من مملوك أن يكون لطيفاً معه إلى أبعد حد». وأكد «مجتهد» أن ولي ولي العهد السعودي وعد بأن المملكة لن تعترض على إعادة تأهيل للنظام السوري وعودة سفراء أي دولة الى دمشق «شرط أن تؤجل مشاركة السعودية في هذا الترتيب». وتابع أن «بن سلمان ليس عنده تحفظ، وسبب تردده هو أن تقديرات الاستخبارات الأميركية والتركية تفيد بأن الأسد لن يدوم طويلاً والمراهنة عليه خاطئة».
مصادر مطلعة على فحوى الحراك الدبلوماسي المكثف الجاري في المنطقة قالت لـ «الأخبار» إن «الرياض التي أحرجت من تسريب خبر اللقاء كانت في حاجة الى تقديم تبرير له، لجمهورها المحلي والسوري واللبناني، ولو برواية سخيفة لا تنطلي على الأطفال». ولفتت الى أن «النقاش في أصل اللقاء بدأ على قاعدة بقاء الأسد في الحكم، وعلى قاعدة التأكيد العلني للرئيس الروسي فلاديمير بوتين التزامه نحو سوريا شعباً وقيادة، أثناء لقائه وزير الخارجية السوري وليد المعلم نهاية حزيران الماضي. وإلا لم تكن هناك حاجة لذهاب مملوك الى السعودية ليسمع الموقف الذي تعلنه على الملأ». ورأت أن «من المنطقي أن نسمع تبريرات غير منطقية وحديثاً عن أوامر وطلبات سعودية، لما سبّبه التسريب من إحراج للرياض. إذ أن التفاوض لا يزال في مراحله الأولى ولا حلّ ناضجاً بعد». ولفتت الى أن التصعيد في اللهجة لتغطية اللقاء «أمر مفهوم»، خصوصاً أنه ترافق مع اندفاعة سعودية قوية في اليمن، «ولأن كل الحراك الذي يجري في المنطقة الآن لا يوحي ببوادر حلول بعد. لم يتغيّر شيء. لعبة الأرض لا تزال هي الأساسية، والأولوية تبقى للوقائع الميدانية حتى إشعار آخر».
وأوضحت المصادر أن «الأمر الأساسي أن الكل بات مقتنعاً بأن أحداً غير قادر على إلغاء أحد. لكن بازار الحلول لن يركب إلا بعد أن يرسخ الاتفاق النووي الايراني عند الأميركيين في تشرين الأول المقبل. عندها سيكون مطلوباً من ايران المشاركة في لملمة الأوضاع برعاية أميركية ــــ روسية، من مقدّماتها النشاط الدبلوماسي الزائد لموسكو، بتفويض من واشنطن، لجمع المعطيات في انتظار الساعة الصفر الأميركية. وعندها ستتحدّد اليد العليا لكل دولة اقليمية في كل من الملفات، السوري واليمني والعراقي واللبناني».
أما محاولة الرياض، في سياق روايتها، إشاعة أجواء عن أن «الروس باتوا يناقشون مرحلة ما بعد الأسد»، وأن «المفاوضات مع حليفيه موسكو وطهران وصلت حد التساؤل عمنْ يقبل استضافته»، فتدرجها المصادر في «خانة الحرب النفسية التي تستخدم فيها كل الأسلحة». وتضيف: «الموقف الروسي عبّر عنه الرئيس بوتين بالتزامه نحو سوريا شعباً وقيادة، والموقف الايراني عبّر عنه المرجع الأعلى للجمهورية الاسلامية بالتأكيد أن إيران لن تتخلّى على حلفائها. وأي موقف يصدر عن أي جهة دون ذلك لا يُعوّل عليه».