دمشق | لا يختلفُ اثنان على أن الحضور الروسي في سوريا هو حدث الساعة عسكريّاً، وسياسيّاً (حيث مثّل بوابةً إلى فيينا). وهو كذلك اجتماعيّاً في بعض المناطق السوريّة، وفي مقدّمها مدن الساحل. لكنّ الأمر مختلفٌ هُنا في دمشق، أقلّه حتّى الآن. أمرٌ ينسجمُ مع واقع تعيشه العاصمة في العام الأخير من الحرب: ابتعد الناسُ تدريجيّاً عن مواكبة أنباء المعارك، وانهمكوا في محاولة التعايش مع آثارها.
وبات الحديث عن التفاصيل الميدانيّة للمعارك حكراً على مجالس بعينِها. النقاش مع مجموعة شبّان جامعيين من مختلف المشارب يفتح الباب أمام جدلٍ لا نهائيّ حول النتائج المتوقّعة للحضور الروسي، وفيما يتّفق الجميع على أنّه «يقوّي موقف الجيش السوري في هذه المرحلة»، يتخوّف بعضهم من «ردود فعل المعسكر الآخر في المرحلة المقبلة وما يُمكن أن تحمله من تصعيد، سيّما في ظلّ نتائج الانتخابات التركيّة الأخيرة». المفارقةُ أنّ الاسمَ الذي يحضرُ على الألسن أكثر من اسم الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، هو اسم زهران علّوش (زعيم «جيش الإسلام»).

الشارعُ في وادٍ آخر

في المقابل، يبدو السواد الأعظم مشغولاً بالهموم المعيشيّة. الواقعان الاقتصادي والخدمي هما نجما المرحلة. في إجابات معظم من نسألهم عن رأيهم في آخر التطورات تحضرُ ذكرى أيّام عيد الأضحى التي لم ينقطع خلالَها التيّار الكهربائي بوصفها حالةً نموذجيّة يمكن تصنيفها «أفضل أيام دمشق منذ سنوات طويلة». ورغم دخولهم على خط العمليات العسكريّة بقوّة، غير أنّ الروس لم يدخلوا في تفاصيل الحياة اليوميّة الدمشقّية بعد. ربّما كانت الأسباب مفهومة: العاصمة ليست أهمّ التمركزاتِ العسكريّة الروسيّة. «السوخوي» لم تغازل معاقل «جيش الإسلام» في الغوطة سوى عبر استهدافات موضعيّة محدودة، لم تؤثر في قدرة قذائفه على استهداف أحياء دمشق في أي لحظة. الضبّاط والخبراء الحاضرون بصورة يوميّة في رئاسة الأركان ونادي الضبّاط وبعض المباني العسكريّة والأمنيّة الأخرى بعيدون عن الأنظار، وخاصّة أن دمشق كبيرة ومقطّعة الأوصال بصورة تجعلُ حياة كثير من أبنائها موزّعة في دائرةٍ جغرافيّة واحدة. «من شهرين ما طلعت برّا جرمانا»، يقول أبو علي، الذي يعملُ ويسكن مدينة محسوبةً تنظيميّاً على الريف، لكنّها أشبه بضاحية تُمثّل امتداداً لدمشق. «سمعتُ أنّ بعضهم يسهر في (المطعم الفلاني، وسط دمشق) بس ما شفت. الله وكيلك من ست شهور ما دخلت مطعم»، يقول أحد تجّار البزورية لـ«الأخبار». على مشارف سوق الحميديّة يلفت نظرنا رجلان بملابس مدنيّة وملامحَ لا تخطئها العين، يرافقهما ثالثٌ يبدو دليلا في جولةٍ داخل السوق العتيق. بين اللّغتين الروسيّة والانكليزيّة يتبادل الثلاثةُ حديثاً يشي بأنّ الأشقرين صحافيّان. يعتذر الرجلان عن عدم الخوض معنا في أي حديث، وبابتسامةٍ مُتكلّفة وحازمة يتولّى مرافقُهما مهمّة وضعِ حدٍّ لمحاولاتنا. أمّا صاحبُ محل التحف الذي غادروه للتو، فيجيبُ عن أسئلتنا بجملة مُتحسّرةٍ: «ما اشترو شي»، ويستفيض بعدَها في حديثٍ طويل عن الرّكود الذي تعانيه مهنتُه.

ممنوع التصوير!

ثمّة تغيّرات واضحةٌ في الملامحة العامة لبعض أحياء دمشق القديمة، خاصّة أشهرها: باب توما. جولة طويلةٌ في الحي العريق، وأحاديث مستفيضةٌ مع عدد من سكّانه وروّاد مطاعمه ستكونُ كفيلةً بالوقوف على تغيّرات في هويّة المكان. «هاجرَ كثيرٌ من سكّان شارعنا، بدأ الأمر في شكل هجرات فرديّة، وسرعانَ ما هاجرت عائلات بأكملها»، يقول أبو فادي. معظم المطاعم والمقاهي ما زال قادراً على استقطاب الرّوّاد، ويحرصُ بعضها على تقديم برامج فنيّة في أيّام محدّدة من الأسبوع. عناصر اللجان الشعبيّة يحافظونَ على حضورهم في مفاصل الحي، شأنهم شأنَ أناشيد باسم الكربلائي، وغيره. معظم الحواجز لا تقوم بوظيفة واضحة مثل عمليات التفتيش مثلاً. قرب «حمّام البكري» الشهير تهمّ مجموعة فتيات بالتقاط الصور فيسارع أحد العناصر لإخبارهنّ بأنّ «التصوير ممنوع». تردّ إحداهنّ: «حتّى لو صورتنا إنت؟»، لينتهي الأمر بالتقاط العنصر صورةً للفتيات شريطة أن يظهر خلفهنّ جدارٌ فحسب. بعدَها يجيب العنصر على استفسارنا بالقول: «التصوير ممنوع إذا كانت الصورة تُظهر الشارع. ومسموحٌ إذا كانت أمام جدار».

وسط دمشق ما زال مزدحماً

في وسط العاصمة ما زال الازدحام سيّد الموقف. ازدحامٌ لا يقتصر على وسائل المواصلات فحسب بل يتعدّاه إلى العنصر البشري، وحركة البيع والشراء على «البسطات» قرب جسر الثورة. فنادق المرجة مكتظّة بروّادها، والحمامُ يواصلُ الرفرفة في الساحة التي شهدَت قبل تسعة وتسعين عاماً إعدام جمال باشا السفّاح نخبةً من المثقفين والسياسيين العرب. أمّا أكبر التجمّعات البشريّة فتُمكن معاينتُها يوميّاً أمام شركات الحوالات الواردة من خارج سوريا، حيثُ يكتظّ الناس في انتظار يستغرقُ ساعات طويلة بغية قبض مبالغ قد لا تتجاوز الـ100 دولار.

فوت وسكّر الحاجز وراك

بات حي ركن الدين واحداً من أكثر أحياء العاصمة اكتظاظاً. وهو بالنسبة إلى وسط العاصمة أقربُ الأحياء التي يسهُل الحصول على موافقة أمنيّة للسكن فيها. ولهذا السّبب لن يكون مستغرباً أن يقارب أسعار الإيجارات فيه نظيرتها في أحياء «فخمة» مثل المالكي، والشعلان وسواهما. ورغم سهولة الحصول على الموافقات، لكنّ الإجراءات الأمنيّة داخل الحي مشدّدة. وعلاوةً على تكرار المداهمات الأمنيّة بين فترة وأخرى بات من المعتاد أن يقوم عناصر حاجز «ساحة شمدين» (الواصل بين وسط العاصمة وحي ركن الدين) بإغلاقه يوميّاً في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً. واعتاد أصحابُ السّيارات على وجوب العودة إلى منازلهم قبل منتصف الليل، إلّا إذا رغبوا في ركنِ سياراتهم على أطراف الحي ودخوله سيراً على الأقدام. وسيبدو طبيعيّاً أن يعتذر معظم سائقي الأجرة عن عدم إقلالك من الحي إلى خارجه متى اقترب موعد الإغلاق «صارت الساعة 11 ونص، ما فيني أطلع. من يومين رجعت مأخّر 5 دقايق وبألف يا ويلاه حتى قدرت فوت»، يقول أحد السائقين لنا. ويضيف ضاحكاً: «قال لي العسكري: سماح هالمرّة، فوت وسكّر الحاجز وراك».




«قول للزمان ارجع يا زمان»

قبل ستّة أعوام، وفي حي الأمين في دمشق القديمة تحوّل أحد البيوت العريقة إلى فندق ساحر، سُمّي «تلسمان» (المرادف الانكليزي لكلمة تعويذة). بعض الصّور التي ما زالت معلّقة على أحد جدران الفندق توثّق زيارة النجمين العالميين أنجلينا جولي وبراد بيت إليه عام 2009. المفارقةُ أنّ جولي زارت دمشق حينها بوصفها سفيرة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبغية «الاطلاع على أحوال اللاجئين العراقيّين في سوريا»، قبلَ أن يتحوّل كثير من السوريين إلى لاجئين تقوم النجمة بزيارتهم في مخيماتهم خارج البلاد. مثل كثير من المنشآت السياحيّة المشابهة تأثّر الفندق خلال سنوات الأزمة. انخفضت أسعار المبيت فيه من مبلغ يتراوح بين 250 و400 دولار لليلة الواحدة، إلى خمسة آلاف ليرة سوريّة (حوالى 15 دولارا)! كما فتح الفندق أبوابه للراغبين في الاستئجار الشهري (من النازحين من المناطق الساخنة) مقابل أجر يراوح بين 80 و120 ألف ليرة (بين 240 و360 دولارا) للشهر الواحد.