كالعادة يداعب هواء الصحراء مدينة تدمر. كأن شيئاً لم يكن. فالزمن لم يتوقف يوماً هنا. يتأرجح الهواء بين الأعمدة الممتدة على طول الطريق الروماني. يلطّف الجو في المدرج، فليملم جراح مأساة المجزرة التي حصلت هناك. يتموّج بين أحجار معبد بلْ ليلملم دموع الواقفين على الأطلال للبكاء. تتزاحم وفود الجيوش التي تصل إلى المعبد لترى هول الفاجعة التي حلّت به. جنود سوريون وآخرون روس، ومستشارون عسكريون إيرانيون، وأفغان، يدخلون الى حرم المعبد ليتعرفوا على المعلم الاثري الذي فجّره تنظيم «داعش». التفجير دمر 90% من المبنى. الصخور المفتتة، متراكمة على الأرض بالقرب من مدخله الذي بقي شامخاً في مكانه. بعض الجنود السوريين من الحرس الجمهوري يقولون إن تدمر «لم تعد معلماً أثرياً عادياً فقط، فهي الآن أرض مقدسة لانها رويت بدماء زملائنا الذين أعدمهم داعش في الموقع الاثري». هم لا يفرّقون بين المعبد وبين المسرح، لكن ما يعرفونه أنه بات للموقع وجه جديد وهوية معاصرة تعيش مع تلك التاريخية له.
مأمون عبد الكريم: ترميم معالم تدمر سيكون بمثابة علاج لآلام الشعب

وكأنهم بهذه الجملة يختصرون معضلة يقف أمامها اليوم العالم المتخصص بموضوع الآثار، من منظمة اليونسكو العالمية التي أدرجت سنة 1980 مدينة تدمر على لائحة التراث العالمي، إلى المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا. الكلّ يسأل: ماذا سيحصل اليوم في أهمّ وأضخم معلم اثري في المدينة.
المدير العام للآثار السورية، الدكتور مأمون عبد الكريم، الذي إعترفت له المنظمات الدولية بحياديته، وبعمله الدؤوب في المحافظة على الآثار من دون اي تمييز بين المناطق السورية، يؤكد أن الدمار الذي طاول تدمر «ليس مروعاً لدرجة تخسر فيها المدينة نفسها». بل يذهب أبعد من ذلك ويؤكد أنه «يمكن ترميم وإعادة إعمار معبد بلْ بفترة لا تتجاوز الخمس سنين من العمل المستمر».
الجولة الميدانية على الموقع الأثري أبرزت بشكل واضح حجم الأضرار على الآثار. فقد خلّف القصف على القلعة أضراراً جسيمة طاولت المدخل الأساسي، إذ دُمّر كل من الجسر الذي يصل القلعة بالطريق والبرج بطابقيه الاثنين. يبرر الجيش الدمار بإنفجار عبوات نافسة ولكن الواضح أنه ناجم عن قصف بالمدفعية الثقيلة من «نيران صديقة».
ولم تشفع للمتحف، علامة «الدرع الأزرق» (منظمة لحماية الآثار خلال الحروب) التي وضعتها السلطات السورية على بابه لحمايته من الاقتتال في فترات الحرب، إذ عمل تنظيم «داعش» على تكسير التماثيل وتهشيم الوجوه المنحوتة على النواويس. وفي محاولة منه لتخبئة نموذج نحت لأفراد عائلة، أَلصق ناووسين ببعضهما بعضا، ولكن المسؤول عن التهشيم، انتبه إلى المخبأ وكسر نحت الرؤوس حيث هي، فتهاوت الوجوه على الأرض منتظرة من يعيد ترميمها. ويقول عبد الكريم إن «الأضرار في المتحف جسيمة مما لا شك بذلك، ولكن يمكن ترميم القطع لأنها لم تكسر بالكامل».
نقل القطع من متحف تدمر الى متحف دمشق كان أكبر عملية إنقاذ شهدتها الآثار

ومن الواضح أن الانفجار الضخم الذي دمّر معبد بل، زعزع مبنى المتحف، ما تسبّب بضرر كبير جداً أصاب شبكة الانارة والبنية التحتية. ليكون نقل القطع الصغيرة من متحف تدمر الى متحف دمشق، قبل وصول «داعش» إلى المدينة، أكبر عملية إنقاذ شهدتها الآثار.
أما بالنسبة لقوس النصر، فقد صمدت أعمدته أمام التفجيرات ليتضرّر أعلى القوس فقط... لذا، فالترميم لن يكون صعباً بل قد يكون مماثلاً لما كان قد أنجز من ترميم في ثلاثينيات القرن الماضي بعد اكتشاف المدينة.
تبقى المقابر التدمرية التاريخية التي فُجّرت، والتي يمكن القول إنها معالم فُقدت بعدما حوّلها التفجير إلى كومة من الاحجار... حجم الأضرار قد لا يكون مهولاً بالنسبة لضخامة مدينة تدمر وامتدادها، ولكنه أعطى المدينة التاريخية قيمة جديدة ووجهاً جديداً فهي باتت معلماً حيّاً.
يطرح ترميم معالم تدمر الاسئلة عن خطة إعادة الاعمار التي ستعتمدها سوريا في السنين المقبلة، وتلك التي ستفرضها عليها منظمة اليونسكو. فموقع التراث العالمي هو اليوم معلم جرت فيه أحداث قتل ودمار، وهو شاهد على إرادة تنظيم في إبادة حضارة. فهل سيتغاضى المعنيون عن هذه الوقائع، ليعملوا على إعادة إعمار مبنية على قاعدة أن الاحداث الاليمة لم تحدث فيها قط؟ أم ستخلد ذكرى افراد الجيش الذين أعدموا في المسرح الروماني؟ إذ لا يجوز التغاضي عن آلام الشعب وذكرياته في زمن الحرب من مبدأ ان الحياة اقوى من الموت.
يرى الدكتور عبد الكريم أن ترميم معالم تدمر سيكون بمثابة علاج لآلام الشعب «لأنه سيعيد له الامل وسيلملم جراحه، ويؤكد له أن داعش لم يحصل على مطلبه بتدمير الآثار والشعب، الذي سيستعيد بالبناء مكانته وعنفوانه وقدرته على المقاومة». يبقى أن إعادة ترميم تدمر ستمثّل سابقة في المحافظة على الآثار المدمرة على يدّ «داعش» وأي قرار في شأنها سيلاقي صدى لاحقاً في المواقع المدمرة الأخرى مثل نمرود ونينوى.