في الطريق إلى تدمر، تمرّ «سوريا» سريعاً. من الأخضر المزروع بإتقان في ريف القصير، إلى معامل الفوسفات وخطوط النفط والغاز في الصحراء المترامية.سوريا بألوانها تصل إلى «لؤلؤة البادية». الغبار المنبعث وحرائق الألغام المنفجرة، تفشل في إخفاء مملكة زنوبيا. لا يعكّر جمالية القلعة أعلى الجبل سوى «قصر موزة» القطري الموازي. «الملكة» عادت، لكن عودة غريمتها «الأميرة» غير مؤكدة، إذ قد يتحوّل قصرها الفارِه، بأعمدة غرفه الشاهقة وبركته الاصطناعية، إلى مقارّ أمنية. من يدري، قد تكون هذه ضريبة الانفتاح على آل ثاني. سوريا دفعت من أبنائها مقابل السلاح والمال القطري، مقابل بناء أسطوري لم يجد مهندس مكاناً مماثلاً في الدوحة ينفذه.
أبعد من رمزية حماية «زنوبيا سوريا»، ومن الدمار الجزئي الذي أصاب «زنوبيا الدوحة»، تتخطّى مسألة تحرير تدمر الأهداف الآنية في حماية الآثار التاريخية وقطع خطوط إمداد أساسية لتنظيم «داعش». السيطرة على المدينة تشكّل نموذجاً ناجحاً لعمليات الجيش السوري والحلفاء ضد «داعش» بعد عمل مشابه (بدور روسيّ أقلّ) ضد «القاعدة» وأخواتها في ريف حلب الجنوبي.
في معركة البادية، قسّمت محاور القتال بين عناصر الجيش والقوات الرديفة والحلفاء بغطاء جوي روسي. الاشتباكات لم تصل إلى داخل الأحياء. تقدّمت كل مجموعة من محورها حسب الخطة المرسومة لتُطبق على المدينة. الكلام عن «تسليم وتسلّم» يُضحك العالمين في الميدان. القتال الشرس كان ما قبل إعلان تحرير تدمر في مناطق مثلث تدمر، والبيارات، والدوّة، وجبلَي الطار والهايل والمقالع. عشرات الشهداء من جنود وضباط سقطوا في المعركة.
هي عقارب الساعة تعود إلى الوراء، فبعد مدينة القريتين يتواصل الاستعداد العسكري في البادية وصولاً إلى دير الزور والحدود العراقية.
هذه المرة لن تُختصر العمليات، كما يؤكد قادة ميدانيون، على استرجاع ما سقط، بل يتعدّاه إلى العمل على تقزيم وجود «داعش» في سوريا، صاحب «الدولة» الممتدة في الحواضر. يُعمل على طرد التنظيم من «العصب» الذي يشكّل صورته وقوته، وإرجاعه إلى حالة المجموعات والخلايا المنتشرة في الأطراف.
استعادة «قلب سوريا»، أخيراً، تعني أنّ «الدماء» ستسير إلى باقي الجسم شمالاً وشرقاً و...
في أيلول الماضي، خرج رجب طيب أردوغان ليقول إنّ «الأسد يريد تأسيس سوريا صغيرة تبدأ من دمشق وتمتد عبر حماه وحمص إلى اللاذقية، وهي منطقة تشكّل 15% من مساحة سوريا... تسيطر عليها وتدعمها قوى سيادية معيّنة (يقصد روسيا)».
الرئيس التركي وشركاؤه من «أصدقاء سوريا» لم يتورّعوا عن استغلال كل فرصة للتأكيد أنّ الدولة السورية الحالية تعمل على تقسيم البلاد، بعدما فرغوا من معزوفة إسقاط النظام.
في دير الزور، أمس وخلال شهور طويلة سابقة، يقاتل المئات من الجيش السوري في محيط «داعشي» يصل إلى الأنبار العراقية. هؤلاء لا يؤمنّون حقول نفط ولا مطاراً محاصراً غير قابل لاستخدام. مجموعات تُستنزف يومياً في أقاصي الشرق السوري لسبب واحد: حضورنا هنا يعني التمسّك بـ«وحدة البلاد»... وما معارك البادية إلا لوصل الجسم بالرأس.