دمشق - لم يكن النزوح العراقي عام 2003 عادياً، فهو، كما وصفته «المفوضية العليا للاجئين»، في أكثر من بيان لها، بـ«أكبر هجرة جماعية قسرية تحصل، منذ الحرب العالمية الثانية».
هذا اللجوء كانت له انعكاساته الطبيعية على سوريا، كونها تمثل أفضل وجهة يمكن أن يقصدها اللاجئ العراقي، أولاً، بسبب انخفاض تكاليف المعيشة فيها، مقارنة مع باقي الخيارات المتاحة أمامه، وثانياً، أن العيش في بيئةٍ كالبيئة السورية، المتشابهة إلى حدٍ بعيد مع العراق، لا يشكل فارقاً اجتماعياً وحضارياً شاسعاً بالنسبة الى اللاجئ العراقي. أما السبب الثالث، فيتجلى بالمعاملة الجيدة التي يلقاها المواطنون العرب، كتسهيل إجراءات الإقامة والتعليم، خصوصاً إذا كانت لبلادهم قضية تتعلق بالمقاومة والصراع مع أميركا وحلفائها، كالفلسطينيين والعراقيين.
وهناك خلافٌ دائم ومستمر بين الحكومتين السورية والعراقية حول تحديد أعداد اللاجئين العراقيين في سوريا. إذ تميل بغداد إلى اعتبار الأرقام التي تقدمها دمشق (3.2 ملايين لاجئ عام 2003) «مبالغاً فيها»، ولا يزال هذا الخلاف حتى اليوم، بعد أن تناقصت أعداد اللاجئين بشكلٍ كبير ومتدرج، منذ عام 2007.
ويعيش أغلب اللاجئين العراقيين في ريف دمشق، أكثر من مركزها. وقد فضَّل أصحاب الثروات الضخمة (تقدِّر بعثة تقصي الحقائق العراقية نسبتهم بـ 10% عام 2007) والمتوسطة العيش في مناطق جرمانا وضاحية قدسيا وصحنايا. فيما لجأت أغلبية الفقراء إلى منطقة السيدة زينب، حيث يمكن لأكثر من عائلة أن تشترك في دفع إيجار منزل واحد.
العراقيون والأزمة السورية
منذ اندلاع الأزمة السورية واتخاذها منحى عنفياً، عاد ما يقارب السبعين ألف لاجئ عراقي إلى بلادهم. ولكن، وبحسب المفوضية، فضَّل أكثر من عشرين ألفاً منهم العودة إلى سوريا مجدداً على رغم اشتداد المعارك فيها. وتبقى مدينة جرمانا أكثر مقاصدهم. ويقول حسن الغراوي، وهو أحد اللاجئين العراقيين في المدينة: «في بداية الأزمة سهلت لنا حكومتنا العودة إلى بلادنا، لكن بقاءنا في سوريا عشر سنوات، فتح لنا حياة جديدة هنا. فدمشق ليست مكاناً تتركه بهذه البساطة».
في الرأي السياسي، وقف اللاجئون العراقيون موقف العارف بخبايا الأمور، فلهم تجربتهم في الأزمات، ويدركون جيداً معنى أن تدمَّر الدولة السورية. يقول عباس الصائغ، وهو مستثمر أحد المحال التجارية في مدينة صحنايا، لـ«الأخبار»: «منذ البداية كنا نتحدث الى أصدقائنا السوريين، عن المخطط الذي يرسمه الأميركي، كنا نتفهم الاحتقان الذي يبديه المعارضون تجاه الاستبداد، لكننا كنا حذّرناهم من الوقوع في فخ التهليل للتدخل الخارجي، فقط لأنهم يرفضون الاستبداد. أكثر من عانى منا، نحن العراقيين، هم من رفضوا الاستبداد وأميركا معاً. أتمنى ألا يكون الحال كذلك في سوريا».
أوس السوداني، الطالب العراقي في جامعة دمشق، يبدو أكثر تفاؤلاً، إذ يرى أن «السوريين بألف خير طالما لم تُفكك دولتهم بعد، ولم يتعرضوا للتدخل الخارجي، كما جرى في العراق. بصراحة، عندما كان السوريون يترقبون الضربة الأميركية، استذكر العراقيون ليلة بغداد الشهيرة بصمت خانق». ويحسد الطالب العشريني السوريين على «الفيتو» الروسي والصيني في مجلس الأمن: «لو توفر لنا ما توفر لهم لبقيت مدينة الرشيد آمنة. فرغم المعارك الشديدة لم تنته دمشق، وما زالت أجزاءٌ كبيرة منها آمنة. كل ما جرى في سوريا ليس سوى نقطة في بحر ما جرى للعراق، بل لعل هذه الأزمة ستقوي سوريا أكثر».
وحرص العراقيون على عدم زجّ أنفسهم في مواجهات مع البيئة السورية، نتيجة اشتداد الخلافات السياسية فيها، فكانت مواقفهم، في أشد الأحوال، ساعية لتقريب وجهات النظر السورية. ومع هذا شكّل الحديث عن جماعات عراقية مسلحة تقاتل إلى جانب النظام السوري، إحدى البوابات الرئيسية لتحميل العراقيين أعباءً إضافية. «نحب مقدساتنا ونحترمها إلى أبعد حدّ، ولهذا فضلنا أن تقوم الدولة السورية بحمايتها، فلسنا مستعدين لأن نقع في فخٍ نصب لنا منذ بداية الأحداث»، يروي محمد عسكر، أحد اللاجئين في حي السيدة زينب. ويضيف: «بات الناس عموماً ينظرون إلى العراقي الذي يسكن في حي السيدة زينب على أنه حصراً من لواء أبو الفضل العباس، رغم أن العدد الأكبر من المنتمين إلى هذا اللواء، من العراقيين، هم من خارج الحي».
وعلى هامش المعارك اليومية، تستطيع الوصول بصعوبة بالغة إلى أحد المقاتلين العراقيين في «لواء أبو الفضل العباس» الذي يضم مقاتلين من جنسيات متعددة لحماية مرقد السيدة زينب بنت علي. في صدر بيته المتواضع، على أطراف مقام السيدة رقية، تقابلك لوحةٌ مرسومة بخط اليد لأحد أحياء بغداد. الأربعيني أبو حيدرة، كما فضل أن نناديه، لا يرى ضرراً في القتال داخل سوريا. يضع معادلته أمامك ببساطة شديدة، وبالإمعان في استخدام اللهجة الدمشقية. «عندما تعرَّض العراق للجريمة الأميركية، خرجت الحافلات لتقلّ المقاتلين من كل البلاد العربية من قلب دمشق. اليوم سوريا تتعرض لذات الهجمة، فما المانع من رد الجميل؟». ولا يقبل بكل التشكيك حول الخلفية الطائفية لعملهم على الأرض. يكرر ما قاله الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، حول أن حماية المقدسات هي لمنع الطائفية وليس لترسيخها، بالحرف الواحد وبطلاقة، وكأنه جاهد في حفظ الفكرة عن ظهر قلب.يرى في حمله للسلاح واجباً محتماً عليه لحماية المقدسات. يستذكر الطريقة التي تعرض فيها التراث العراقي والمقدسات للنهب والتدمير المنظّم في بلاده. ويراها سيناريو وحيداً يجري تمريره في دمشق. لا ينكر التجاوزات للعناصر الموالية المسلحة، ويضعها في إطار «التجاوزات الفردية الكثيرة» ويسارع في الإجابة: «كله يتعالج. غداً تنتهي الأزمة ويعود الجميع الى حياته الطبيعية، بلا سلاح وبلا وجع قلب». يعتذر عن قطع اللقاء بلطف بسبب بدء موعد مناوبته، يرتدي بدلته العسكرية الموسومة بشعار «خدَّام السيدة زينب»، ونغادر.