تسير السيارات بحذر شديد في مدينة الرقة. سحابة دخان سوداء كثيفة تطالعك في السماء، حتماً ليس هذا موعد «العجاج» (التسمية المحلية لعاصفة غبارية شديدة، تضرب الرقة منذ أكثر من 10 سنوات كل عام نتيجة القحط وقد تدوم لأيام)، وليس ثمة غبار أسود في تلك المحافظة الزراعية ذات الطبيعة البكر. تُمعن النظر جيداً فترى النيران المشتعلة، والدخان يلوث الهواء بغازاته السامة.
مئات «الحراقات» انتشرت في ريف الرقة، وأصبح «طبخ النفط» الخام وتصفيته التجارة الرابحة اليوم.
عجزت الحكومة السورية عن إيصال المحروقات إلى إمارة «النصرة»، الرقة، فعمد الأهالي إلى توفير احتياجاتهم من المحروقات لفلاحة أراضيهم وزراعتها، من خلال تصفية النفط الخام بطرق بدائية. لتتحول هذه الحاجة إلى تجارة لاحقاً.
ترك الرجل الثلاثيني، عبد المجيد الخليل، العمل في ضاحية بيروت الجنوبية، وعاد ليؤسس مشروعه الخاص في الرقة. يروي لـ«الأخبار» كيف أشترى ألواحاً حديدية بسماكة 5 مم، مع «قسطل» بقطر 1 إنش وطول 10م يُحفر له في الأرض، ويُغطى بالمياه الباردة مع كل عملية طبخ. «نفصل من الألواح الحديدة خزانات دائرية في المنطقة الصناعية بالمدينة، وبكلفة تصل إلى 25 ألف ليرة سورية، نحصل على مشروع متكامل لطبخ النفط وتصفيته»، يضيف.
يشتري الخليل المادة الخام من التجار، «وأغلبهم قادة كتائب في الجيش الحر»، فرضوا سيطرتهم على منابع النفط السوري في دير الزور، ومحطات ضخه في الرقة.
مع مرور الوقت، اكتسب أهالي الرقة خبرة بأنواع النفط وأسعاره وميزاته، فالسعر مرتبط بالنوعية والجودة والإنتاجية، والجودة يعكسها المردود، ويراوح السعر بين 3000 ل.س لكل 200 ليتر، إلى 8000 ل.س. يُعدد عبد المجيد الأنواع بتركيز واضح، «نميز النفط الخام من خلال لونه، فهناك الأسود والأصفر والأخضر والأحمر والبني، أما الأصفر فهو الأجود بينها والأغلى، لنتاجه المميز ومردوده الكبير».
تبدأ عمليات الطبخ والتصفية والتقطير بإشعال النار تحت «الحراقة»، وهي غالباً ما تكون من الإطارات المهترئة وبقايا النفط المطبوخ. تستعر النيران ويغلي النفط بعد 15 دقيقة، يخرج الغاز، يتبخر في الهواء، نصف ساعة ويُفرز البنزين، ثم الكاز وأخيراً المازوت. يضيف عبد المجيد «ينتج البرميل الواحد سعة 220 ليتراً من النفط الأصفر 30 ليتراً من البنزين، والكمية ذاتها من الكاز، ونحو 120 ليتراً من المازوت، وتستخدم بقايا المخلفات في عملية الطبخ في اليوم التالي».
وجدت المنتجات البدائية سوقاً رائجة لها، حيث تسوق في البيوت وعلى الطرقات العامة، ومحالّ البقالة. يُباع ليتر البنزين بنحو 75 ل.س، وكذلك للكاز، أما المازوت فسعر الليتر الواحد منه 65 ل.س. يربح «الطباخ» من البرميل الواحد 2500 ل.س، بعد كل عملية طبخ تستغرق 120 دقيقة.
مخاطر كثيرة تحدق بمن يعمل في هذا المجال، أحاديث كثيرة عن شباب تحولوا إلى أشلاء صغيرة، نتيجة انفجار الحراقات، إلا أن الجشع أصبح سيد الموقف بعد أن كانت الحاجة الملحة. استطاع البعض تكوين ثروة، لم يعد هناك وقت لعد النقود في منابع النفط. أصبحت الأموال توزن على «قبابين رقمية»، واحتفل العديد من أصحاب الآبار والتجار بجمع «المليار الأول» من ثروتهم.
الإشعاعات تسبّب سرطانات قاتلة، ويتجاوز خطرها من يعمل في الطبخ، لتُميت النباتات والحيوانات والبشر، موتاً بطيئاً، يقولون، «إنهم يدركونه جيداً، ولكنها الحاجة، وقسوة العيش، والرغبة في الحياة المرفهة».
الطفرة المالية وتركز الثروة بيد الفئة القوية، أوصل بعضهم لحالة من البطر فهم يُعدّون اليوم «إبريق الشاي» ويوقدون تحته بالنقود السورية من فئة 1000 ل.س. يُحكى، اليوم على سبيل الدعابة، أنّ الأبريق الواحد يحتاج إلى 125 ألف ليرة ليغلي!
وجد التجار فرصة لتصريف الجيد من بضاعتهم في تركيا، ولا يناسب البنزين المصفّى السيارات الحديثة بسبب مادة الرصاص، وتعمل بقية الآليات بنحو شبه طبيعي. حصل التجار الكبار على «حراقات» تعمل بالطاقة الكهربائية استوردت من تركيا لهذه الغاية تكلف أكثر من مليون ونصف مليون ليرة سورية.