ما زالت النقلة التي أحدثتها السعودية في سياستها الخارجية، من «كلّ المشاكل» في بداية عهد وليّ العهد، محمد بن سلمان، إلى «صفر مشاكل» حالياً، مثار تحليلات وتكهّنات كثيرة. صحيح أن تحقيق «رؤية 2030» يحتاج إلى استقرار، ولكن ذلك فقط سبب جزئي للتحوّل الحاصل، والذي يقوم في أساسه على تغيير فلسفة النظام الجديد للمملكة في سعيه لتثبيت الشرعية المطلوبة لانتقال الحكم، والتي نُصح ابن سلمان بأنها تكمن في العودة إلى ما يناسب النسيج الاجتماعي للمملكة، بما يقتضيه هذا الأخير من أن تكون لها مساهمة إيجابية في ترتيب الأوضاع في جوارها
عندما نُصّب محمد بن سلمان وليّاً للعهد في السعودية وصار صاحب القرار الأول، كان الملك قد مهّد الطريق له لوراثته، مقدّماً إيّاه على سائر الإخوة والأعمام وأبناء العمومة. كان الناظر كيفما يمّم وجهه ناحية السعودية، يجد حرباً أو مشكلة افتعلها الأمير الشاب، الذي واكبت صعوده إلى السلطة أيضاً ترتيبات ساهمت فيها الإدارة الأميركية السابقة، وقيادة دولة الإمارات، ممثَّلة بمحمد بن زايد الذي كان في حينه وليّاً لعهد أبو ظبي. ومع التحوّلات الجارفة التي شهدتها المملكة تحت قيادة ابن سلمان، على صعيد ترتيبات الحُكم الداخلية أو السياسة الخارجية، قيل إن بلوغ سنّ الرشد السياسي سببه التجارب المريرة التي وَضعت على المحكّ مسألة تحقيق «رؤية 2030»، والتي لا يمكن المضيّ بها فيما تتعرّض المملكة لقصف صار في مرحلة ما شبه يومي ردّاً على المغامرات التي خاضتها القيادة الجديدة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن جزئياً فقط. فالحرب على اليمن مثلاً، وهي أكبر المغامرات، كانت افتتاحية عهد الأمير الشاب في مسعاه لاكتساب الشرعية، لكنّ النتيجة التي آلت إليها جاءت معكوسة، بحيث تحوّلت إلى كارثة صارت تمثّل تهديداً لتلك الشرعية المبتغاة، إذ إن هذه الحرب، قبل أن نحسب آثارها الإنسانية التي لطّخت صورة المملكة وكلّ من شارك معها فيها، وبالتحديد الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت حرباً خاسرة عسكرياً، أظهرت الجيش السعودي بصورة العاجز وغير الكفء للدفاع عن البلاد. ولذا، نرى هذا الإصرار من قِبَل ابن سلمان على طيّ الصفحة اليمنية نهائياً، والخروج من المستنقع الذي كانت الرغبة في مغادرته المحرّك الأساسي للاتفاق السعودي - الإيراني في بكين.
وعليه، يمكن القول إن السياسة الخارجية الجديدة للمملكة، والتي قامت في الأساس على إنهاء حرب اليمن بأيّ ثمن، ليست مسألة اختيارية بالكامل. وبالتبعية أيضاً، فإنه، بقدر صعوبة الملفّات العالقة بين الرياض وطهران، ومنها وربّما أصعبها ملفّ اليمن، فإن العودة إلى الوراء ليست خياراً بالنسبة إلى الأولى، نظراً إلى كلفة التراجع بمعنى تأثيره السلبي على شرعية الحكم الجديد. فوظيفة السياسة الخارجية السعودية الجديدة تكمن في تثبيت تلك الشرعية، إلى جانب الإجراءات التي اتّخذها ولي العهد لتثبيت سلطته في الداخل، ومنها الإطاحة بكلّ تهديد سواء جاء من منافسين داخل الأسرة أو المؤسّسة الدينية الوهابية أو من المعارضين. ثمّ، من حيث أدرك ابن سلمان أو لم يدرك، تحوّلت الحرب الأميركية المفتوحة عليه من قِبَل إدارة جو بايدن، من تهديد إلى فرصة. فكان أخْذ مسافة عن الولايات المتحدة التي طالما مثّلت مباركتها أحد مصادر الشرعية لانتقال الحُكم في العرف السعودي القديم، خياراً طبيعياً، أنتج سياسة خارجية مختلفة نسبياً لدى المملكة، تقدّم مصالح الأخيرة على ما عداها، وهو ما رأيناه في التقارب مع الصين وتوسيع العلاقات السياسية والاقتصادية معها، ومن ثمّ مع إيران، وأخيراً في عودة سوريا إلى «جامعة الدول العربية»، والمسعى السعودي لإنهاء حرب السودان، وقبل ذلك مع روسيا، ولا سيما في السياسة النفطية التي أغضبت واشنطن. وعلى رغم أن الظروف الدولية المستجدّة، كحرب أوكرانيا وعودة التنافس القطبي في العالم، ساعدت في جعل تلك السياسة ممكنة، فإن في المملكة من يعرفون واشنطن وسياساتها، كما يعرفون راحات كفوفهم، وخصوصاً من المقرّبين إلى وليّ العهد الذين يقدّمون له المشورة في مِثل هذه المسائل.
أحد أهمّ معالم السياسة الخارجية السعودية فصلها عن الإماراتية التي تحكّمت بها إلى حدّ كبير


من هنا، بدأ التحوّل في السياسة الخارجية السعودية، والذي شمل تفكيك المشاكل ليس مع إيران كقوة إقليمية كبرى ومؤثّرة، وإنّما مع تركيا أيضاً. ولعلّ ذلك التحوّل مهّد له رئيس المخابرات العامة السعودية الأسبق، تركي الفيصل، حين هاجم إسرائيل في مؤتمر في المنامة عام 2020 ردّاً على ما كان يُروَّج عن تطبيع سعودي - إسرائيلي وشيك، حيث بدا حينها أن قيادة المملكة تعرف المقتل الذي يمثّله التطبيع المُشار إليه، وأن الاستقرار لا يتحقّق إلّا بتوافقات مع محيطها الطبيعي. المفارقة أن من أهمّ معالم السياسة الخارجية السعودية الجديدة، هو فصلها عن السياسة الخارجية الإماراتية التي تحكّمت بها إلى حدّ كبير منذ تولّي ابن سلمان تسيير الشؤون اليومية للمملكة، على اعتبار أن كلّ ما تَورّط فيه النظام الجديد جاء بدفع من ابن زايد الذي كان يقود دفّة التصعيد لمصلحة نظامه ويوظّف الإمكانات السعودية من أجل غاياته، ما حيّد استخدام المملكة وزنها الثقيل في السياسة. واللافت، في هذا السياق، أن الحملة المضادّة على الإمارات في المملكة، انضمّ إليها معارضون سعوديون من ضمنهم موالون لوليّ العهد السابق، محمد بن نايف، الذي كان أحد ضحايا تحالف ابن زايد - ابن سلمان. ففي سلسلة تغريدات على مدار الأسبوع الفائت، اعتبر المغرّد المعروف باسم «رجل دولة» أن «اللوبي الإماراتي في المملكة متمكّن بدرجة كبيرة، ويضمّ مسؤولين وصحافيين وكتّاباً ومشاهير، وهؤلاء يُعتبرون اليد الطولى لابن زايد في السعودية. ويجب أن تُقطع هذه اليد قبل أن تتمكّن أكثر»، متوقّعاً تصعيد المشاكل بين البلدَين.
أحد آخر وأبرز الأمثلة على السياسة الخارجية السعودية الجديدة، عملية الإجلاء التي قامت بها المملكة من السودان لرعايا عشرات الدول الذين وجدوا أنفسهم على تقاطع النيران، والتي قدّمتها المملكة بوصفها عملية إنسانية ذات بعد عالمي، وهي صورة تعاكس الصورة التي بدت عليها الإمارات المتّهَمة بتحريض طرفَي الحرب أحدهما على الآخر، وإذكاء النيران من خلال التسليح والتمويل. ومن داخل هذه المشهدية نفسها، أرادت المملكة تقديم نموذج مختلف من خلال تعاملها مع الرعايا الإيرانيين الذين أجْلتهم من السودان، حين صعد قائد المنطقة الغربية في الجيش السعودي، اللواء أحمد الدبيس، إلى طائرتهم لوداعهم، قائلاً للقائم بالأعمال الإيراني، حسن زرنغر، الذي رافق 65 إيرانياً أجلاهم الجيش السعودي، إن «هذه بلادكم. وإذا احتجتم إلى أيّ شيء من السعودية، فأنتم على الرحب. السعودية وإيران شقيقتان»، قبل أن يضيف أن الاستقبال الحارّ للإيرانيين لدى وصولهم إلى ميناء جدة، جاء بتوجيهات من الملك وولي العهد.