عدم الرضا الرسمي هو أكثر ما يطبع مسيرة العلاقات الاقتصادية بين دمشق وطهران. فالتحالف الاستراتيجي بين العاصمتَين، والذي تعرّض على مدار العقود الأربعة الماضية لاختبارات قاسية، وتمكّن في كلّ مرّة من تجاوزها، كانت نقطة ضعفه الأولى تكمن في حصيلة العلاقات التجارية والاستثمارية الثنائية، إذ على رغم الفرص الكثيرة المتاحة، والاجتماعات الفنّية التي لم تنقطع يوماً، إلّا أن تلك العلاقات بقيت دون المأمول، وإنْ حدث وتطوّرت في بعض الأعوام، فذلك كان يتمّ ببطء شديد. وعلى رغم أن فترة الحرب قد فرضت حضوراً أكبر لهذه العلاقات لأسباب عدّة، ولا سيما من قِبَل الجانب الإيراني المدفوع بهاجس دعم حليفه اقتصادياً كما فعل سياسياً وعسكرياً، إلّا أن هذا الحضور اعترته كثير من الملاحظات المتعلّقة بالتنفيذ أو بطبيعته هو نفسه، فضلاً عن مستقبل تلك العلاقات وزخمها مع أيّ انفتاح اقتصادي عربي محتمل على سوريا في المستقبل، وهو برأي البعض قادم لا محالة مع حلّ الأزمة السورية. ومن هنا، يمكن القول إن توقيع الرئيسَين، بشار الأسد وإبراهيم رئيسي، على اتفاقية للتعاون الاستراتيجي بين البلدين أوّل من أمس، من شأنه ليس فقط تحديد المسار المراد للعلاقات الثنائية المُراد سلوكه خلال الفترة الماضية، وإنّما هو أيضاً إشارة واضحة فحواها أن الحديث عن وجود اشتراطات خارجية لتقييد العلاقة مع طهران مقابل الحصول على مكاسب سياسية، ليس له أيّ وجود، أو على الأقل ليس محلّ نقاش سوري اليوم.عملياً، يمكن تحديد ثلاثة مجالات أساسية لتقييم مستوى العلاقات الاقتصادية بين الدول، وهذه المجالات هي: معدّلات التبادل التجاري المتحقّقة، قيمة الاستثمارات البَينية المنفّذة، والتعاون الفنّي والمالي في مختلف المجالات والقطاعات الاقتصادية والخدمية.

عثرة التبادل التجاري
مقارنةً بالرغبة السياسية المعلَنة لقيادتَي الدولتَين، فإن معدّلات التبادل التجاري المتحقّقة بين دمشق وطهران لا تزال محدودة، مقارنة بقيم وكمّية التبادل التجاري المسجَّلة للدولتَين مع الدول الأخرى من جهة، وبالفرص التجارية المتاحة من جهة ثانية. وهذا، على رغم التحسّن السنوي الذي تؤكّده البيانات الإحصائية الرسمية، والتي تشير إلى انتقال إيران من المرتبة الـ14 بين الدول المصدّرة إلى سوريا في عام 2018، إلى المرتبة السادسة في عام 2019. وبحسب ما تذكر تلك البيانات، فإن المستوردات السورية من إيران وصلت قيمتها في عام 2020 إلى حوالي127.7 مليار ليرة، أي ما يعادل حوالي 133.7 مليون دولار وفقاً لمتوسّط سعر الصرف الرسمي المحدد للمستوردات في المجموعة الإحصائية، وبذلك، فإن المستوردات من إيران تشكّل ما نسبته 11.6% من إجمالي المستوردات السورية من الدول الآسيوية. أمّا الصادرات السورية إلى إيران، فإن قيمتها في عام 2020 لم تتجاوز 10.9 مليارات ليرة، أي ما يعادل حوالي 11.4 مليون دولار وفقاً لمتوسّط سعر الصرف الرسمي المعتمد للصادرات، مُشكّلةً حوالي 6.9% من إجمالي الصادرات السورية المتّجهة نحو الدول الآسيوية.
ولمزيد من توضيح مكانة المبادلات التجارية الإيرانية على خريطة التجارة الخارجية السورية، يمكن إجراء مقارنة بسيطة بينها وبين المبادلات السورية مع بعض الدول. فمثلاً، وفقاً لبيانات عام 2020، فإن المستوردات السورية من مصر وصلت قيمتها إلى أكثر من 285.5 مليار ليرة، أي بزيادة قدرها 123% مقارنة بتلك القادمة من إيران، وهو ما ينسحب أيضاً على المستوردات من روسيا، والتي زادت قيمتها على قيمة الآتية من إيران بنسبة 59%. والحال نفسه ينطبق على الصادرات السورية، التي سجّلت مع بعض الدول قيماً كبيرة جدّاً مقارنة بالقيمة المسجَّلة مع إيران؛ فمثلاً ما وصل إلى مصر من صادرات سورية خلال عام 2020، قُدّرت قيمته رسمياً بأكثر من 204 مليارات ليرة، وإلى لبنان بـ300 مليار ليرة. وتالياً، فإن نسب الزيادة تبدو كبيرة جدّاً عند مقارنتها بالصادرات المتجهة إلى إيران. أكثر من ذلك، فإن قيم الصادرات المتّجهة إلى بعض الدول التي قاطعت سياسياً دمشق منذ بداية الأزمة، كانت أكبر من التي توجّهت إلى طهران؛ فعلى سبيل المثال، الصادرات المتّجهة إلى ألمانيا بلغت قيمتها 29.6 مليار ليرة، وإلى هولندا 22.3 مليار ليرة، وفي دول أخرى كرومانيا تخطّت عتبة 110 مليارات ليرة.
ومع ذلك، فإن ما سبق لا يلغي وجود تحسّن في نصيب المبادلات التجارية بين البلدَين من إجمالي التجارة الخارجية السورية؛ فالمستوردات السورية من إيران، والتي لم تكن تتجاوز نسبتها من إجمالي المستوردات من الدول الآسيوية أكثر من 5.8% في عام 2011، ارتفعت نسبتها في عام 2020 لتسجّل حوالي 11.6%. والأمر نفسه حدث بالنسبة إلى الصادرات السورية المتّجهة إلى إيران، والتي شكّلت في عام 2011 ما نسبته 2.2% من إجمالي الصادرات المتّجهة إلى الدول الآسيوية، بينما في عام 2020 وصلت إلى حوالي 6.9%. هذا مع الإشارة إلى أن المبادلات التجارية بين سوريا وجميع دول العالم تراجعت كقيمة بين عامَي 2011 و2020، متأثّرة بظروف الحرب وبإجراءات ترشيد المستوردات، المطبَّقة من قِبل الحكومة السورية.
معدّلات التبادل التجاري المتحقّقة بين دمشق وطهران لا تزال محدودة


شكلان للاستثمار
غالباً ما يسلَّط الضوء، في تناول ملفّ الاستثمارات البَينية، على المشروعات الإيرانية المنفَّذة في سوريا، رغم وجود مستثمرين سوريين يعملون في إيران، لكن لا توجد تقديرات إحصائية رسمية لقيم تلك الاستثمارات ومجالات عملها. وهذا أمر ينطبق في جزء منه على الاستثمارات الإيرانية الموجودة في سوريا، والتي اتّخذت خلال سنوات الحرب شكلَين رئيسَين:
- الأوّل، عبارة عن استثمارات غايتها سداد الديون الإيرانية المتراكمة على سوريا لقاء الخطوط الائتمانية النفطية والسلعية، ومعظمها تَركّز في قطاع النفط والثروة المعدنية من قَبيل عقد إنتاج وتشغيل معامل الغسيل الفوسفاتي باحتياطي قدره 1.1 مليار طن، حيث تبلغ حصّة الجانب الإيراني 85% من الأرباح، وذلك بغية تسديد جزء من الدين. وهناك أيضاً عقدان وُقّعا سابقاً في مجال النفط وفق نموذج عقود المشاركة بالإنتاج، وغايتهما سداد جزء من الدين.
- أمّا الشكل الثاني، فيتمثّل في المشروعات الاستثمارية الهادفة إلى تلبية الاحتياجات السورية في قطاعات معيّنة من قَبيل مشروعات إعادة تأهيل وإصلاح وصيانة بعض محطّات توليد الطاقة الكهربائية، وتأهيل وإصلاح السكك الحديدية وقاطراتها، وإعادة تشغيل بعض المعامل الصناعية الحكومية المتوقّفة وغير ذلك.
يؤخذ عادةً على هذه المشروعات أو بعضها للدقة، البطء في عملية التنفيذ، وعدم تحقيقها نتائج سريعة على رغم الإمكانات المتاحة لذلك، وهذا ربّما شكّل إحدى أهمّ المشكلات والملاحظات المثارة دوماً على طبيعة التعاون الثنائي، وتالياً تأخّر حصول البلدَين على نتائج تكون مشجّعة لمزيد من الشراكات الاستثمارية بين الجانبَين، ولا سيما بين القطاع الخاص في كلا البلدين.
أمّا في المجال الثالث المتعلّق بالتعاون الفنّي والمالي، فتُظهر المؤشرات مستوى أعلى من التعاون، سواء على مستوى التعاون العلمي والفنّي وتبادل الخبراء وعمليات التدريب، أو على مستوى الدعم المالي، والذي تُوّج إلى اليوم بالاتفاق على منح طهران، دمشق، عدّة خطوط ائتمانية لتتمكّن من خلالها من تأمين الجزء الأكبر من احتياجاتها النفطية والسلعية الغذائية وغير الغذائية.

مشروعات إقليمية
إلى جانب الطموحات الثنائية لكلّ من طهران ودمشق في تحقيق مستوى أعلى من التعاون الاقتصادي، فإن المتغيّرات الإقليمية التي شهدتها المنطقة أخيراً، وقد تشهدها لاحقاً، وخاصة لجهة مفاعيل المصالحة السعودية - الإيرانية، وانخراط الدول العربية في جهود المساعدة على إيجاد حلّ للأزمة السورية، يمكن أن تمهّد الطريق لدخول طهران ودمشق في مرحلة التنفيذ الفعلي لمشروعات استثمارية ذات بعد إقليمي هامّ، كالربط السككي بين إيران والعراق وسوريا، ومدّ شبكة خطوط أنابيب بين الدول الثلاث لنقل النفط والغاز وتصديرهما عبر المتوسّط، وهما مشروعان قد يتوسّعان ليشملا دولاً أخرى كالسعودية والأردن مثلاً.