دمشق | شكّل ارتفاع سعر الصرف الرسمي بداية العام، «الشمّاعة» التي علّقت عليها وزارة الصحّة السورية قائمة الأسعار الجديدة للأدوية، والتي ارتفع بموجبها سعر نحو 12 ألفاً و826 زمرة دوائية من مختلف المعامل المحلّية. إذ اعتبرت الوزارة أن قرارها فرْض زيادة تتراوح بين 50 و80%، هو الحلّ لاستمرار المعامل في الإنتاج. إلّا أن القرار لاقى موجة غضب من قِبَل السوريين الذين كالوا الاتّهامات للعاملين في قطاع الصيدلة من أصحاب مصانع ومستودعات وصيدليات، معتبرين أن هؤلاء يحتكرون الأدوية في انتظار رفْع «التسعيرة» لكسْب المزيد من الأرباح. وأيّاً كانت حقيقة الوضع، فالأكيد أن السوري اليوم «سيعدّ للعشرة» قبل اتّخاذه قرار شراء دوائه، فيما ستكون المحافظة على صحّته خارج إطار الأولويات، وبخاصة أن ارتفاعاً جديداً في الأسعار متوقّعٌ في أيّ وقت.
مبرّرات الزيادة الأخيرة
لم تهدأ نار سوق الدواء السورية منذ أكثر من عام، بين فقدان أصناف وارتفاع أسعار أخرى. إذ وصلت نسبة النقص في السوق المحلّية إلى 50% مع بداية العام الحالي، بحسب «المجلس العلمي للصناعات الدوائية»، فيما ارتفعت الأسعار، خلال عام 2022، ثلاث مرّات بنسبة وصلت إلى أكثر من 130%، في ما جرى تبريره دوماً بـ«استمرار دوران عجلة السوق الدوائية»، بحسب ما يقول الدكتور جهاد وضيحي، عضو مجلس «نقابة صيادلة سوريا»، في حديث إلى «الأخبار». ويعتقد وضيحي أن «الزيادة الأخيرة على الأسعار كانت ضرورية منعاً لتوقّف المعامل عن الإنتاج، وجاءت بناءً على سعر الصرف الجديد، وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة، وغير ذلك من ظروف صعبة وغلاء معيشة»، معتبراً أن نسبة الزيادة مرتفعة ظاهريّاً، فيما الأسعار على أرض الواقع مقبولة إلى حدٍّ كبير لأغلب الأصناف الدوائية، وأن الدواء السوري لا يزال، حتى الآن، «اقتصادياً»، وسعره أقلّ ممّا هو عليه في دول الجوار. وتُدافع وزارة الصحّة بأنها لا تزال تراقب معامل صناعة الأدوية بالفعل، وتتشدّد في الحفاظ على فعالية الدواء وتسعيره بما يناسب أصحاب المعامل من جهة، والمواطنين من جهة أخرى، كما تحافظ على سعر ثابت بين جميع الشركات لأيّ دواء يحتوي التركيبة والعيارات ذاتها، باستثناء المتمّمات التي لا تُعدّ صنفاً علاجيّاً، بل منتجاً يمكن الاستغناء عنه، وفق وضيحي.

الفجوة بين الراتب والأسعار
قد تكون أسباب ارتفاع أسعار الأدوية منطقيّة إلى حدٍ ما، لكن ما هو غير منطقي، عدم تناسب القدرة الشرائية للمواطن مع تلك الأسعار، التي ستفرض على كثيرين اختصار شراء الأدوية بغضّ النظر عن حالتهم المرضيّة. فعلى سبيل المثال، أيّ مرض عرَضي، كالالتهاب، يحتاج إلى دواء من صنف المضادّات الحيوية لا يقلّ سعره عن 21100 ليرة سورية، وهو ما يعادل رُبع راتب الموظّف الحكومي تقريباً، من دون احتساب معاينة الطبيب. أيضاً، وفق التسعيرة الجديدة، تصل كلفة مجموعة أدوية تستهلكها إحدى السيّدات (سكّري وضغط وهشاشة عظام وفيتامين) إلى 85300 ليرة سورية، وهو ما يزيد بقليل على راتبها التقاعدي.
لا تتناسب القدرة الشرائية للمواطن مع الأسعار الجديدة للأدوية


الحلقة الأضعف
طيلة أزمة الدواء، كان الصيدلاني ولا يزال في «وجه المدفع»، كونه وُضِع في قائمة المتّهمين باحتكار الأدوية بغية رفع أسعارها. إلّا أن لسان حال الصيادلة يقول عكس ذلك، إذ يؤكد أحدهم، وهو أحمد منصور، أن «وضْع الصيدليات المتواضعة وصل إلى حال يرثى لها، فأكثر ما يوجد فيها هو معجون الأسنان واللاصق الطبّي وبعض المكمّلات، وبخاصّة أن شركات التوزيع كانت تفرض علينا شراء كميّات كبيرة منها للحصول على علبة دواء رئيسة، وكنّا نناور بينها لتأمين الأدوية المهمّة. ومع ذلك، لم نَعُد نحقّق الخدمة المطلوبة للمواطنين، ولا الحدّ الأدنى من الربح للصيدلية». ويعترف منصور بأن تجارة الأدوية في سوريا حالها حال تجارة البنزين، حيث «حتى لو فُقدت السلعة من السوق، عندما تدفع مالاً أكثر ستحصل عليها». ومن جهتها، لا تخفي الصيدلانية، منار العلي، سعادتها بتعديل الأسعار كونه سيعيد الأدوية إلى الصيدليات التي كادت الكثير منها تتوقّف عن العمل. وترى أن «الضجّة التي يُحدثها كلّ ارتفاع للأسعار سببها الأوّل انقطاع الدواء لفترة لا يستهان بها قبل الارتفاع، بسبب قلّة الإنتاج أو توقّفه من قِبَل المعامل أو تعليق التوزيع من قِبَل المستودعات التي تعاني ارتفاع التكاليف»، مؤكدة أنها وعدداً كبيراً من الصيادلة استمرّوا في بيْع الأدوية الموجودة لديهم، من منطلق إنساني، على رغم معرفتهم بعدم قدرتهم على تأمين الكمّية نفسها بالأسعار الجديدة، إضافة إلى انخفاض هامش ربحهم الذي لا يتجاوز أساساً الـ20%. وتعتقد العلي أن حلّ أزمة الأدوية يكمن في الاستجابة السريعة لتعديل أسعارها قبل فقدانها من السوق.

الحلّ الجزئي
على أن تدخّل وزارة الصحة، وإن كان يُسهم في حلّ جانب من الأزمة، إلّا أنه ينشغل فقط بتوفير الأدوية، ولا يكترث لمهمّة وقْف ارتفاع الأسعار. وفي هذا الإطار، تقول الصيدلانية ميس المحمد إن «معامل الأدوية مدعومة من حيث سعر المواد الأولية المستوردة من وزارة الصحة، فهي تشتري الدولار من الدولة بحسب سعر الصرف الرسمي، وبالتالي كان من المفروض أن تقوم الوزارة، بعد رفع سعر الصرف مباشرة، بإصدار نشرة تعديل أسعار الأدوية بزيادة 65% على الأقلّ، ومنذ تاريخ الثاني من كانون الثاني، وحتى صدور النشرة، لم تصل الأدوية من المستودعات إلى الصيدليات، إلّا في حالات نادرة». وتَعتبر المحمد أن لمعامل الأدوية والمستودعات الحقّ في الامتناع عن بيْع الأدوية التي تملكها بسعر يسبّب لها الخسارة.
كذلك، يدافع صاحب أحد مصانع الأدوية بأن «مصنع الأدوية كغيره من المصانع، هو مؤسّسة ربحية وليست خيرية، وبحاجة إلى هامش ربح فوق تكلفة الإنتاج ليتمكّن من الاستمرار». ويلفت إلى أنه «منذ بداية العام، ومع ارتفاع سعر الصرف والتكاليف الكبيرة التي نحتاجها لتأمين المحروقات لمصانعنا، قدّمنا طلبات لوزارة الصحة لتعديل الأسعار بما يتناسب مع تكاليف الإنتاج حتى لا نخسر من رأس المال، ولم نتوقّف عن الإنتاج بل استمررنا في تسليم طلبيات المستودعات، إلّا أنه لا يمكن الاستمرار أكثر من ذلك من دون تعديل الأسعار التي تتناسب مع التكاليف»، مشيراً إلى أن أسعار الأدوية قد تستمرّ في الارتفاع، ولا يمكن تحقيق الثبات فيها إلّا باستقرار سعر الصرف وسعر المحروقات على الأقلّ».

مبادرات خجولة
كما في كلّ أزمة، يحاول المجتمع المحلّي، بمبادراته المختلفة، أن يخفّف من وطأة أزمة الدواء قدْر الإمكان. ومع صدور نشرة الأسعار المعدّلة، أعلنت مبادرة «عقّمها» تقديم بعض أنواع الأدوية المتوافرة في مركزها مجاناً للمحتاجين، معتمدةً على ما تحصل عليه من تبرّعات ونماذج طبّية من بعض الشركات. كما قامت بعض التطبيقات الإلكترونية المتخصّصة بالأدوية، بتعديل نشرة الأسعار المؤلّفة من 606 صفحات، لمساعدة الصيادلة على معرفة الأسعار الجديدة بسهولة، بينما اعترفت المنصّة الدوائية السورية بعدم قدرتها، في الوقت الحالي، على القيام بأيّ خطوة أو مبادرة تساعد في التخفيف من عبء الوضع الراهن.