لم يهدأ الغلاء منذ نحو ثلاث سنوات، وفي جميع مناطق البلاد بلا استثناء. وإنْ فعل ذلك، فلأيام قليلة فقط. هكذا، باتت أمنية السوريين اليوم أن يتوقّف فقط، وعند أيّ مستوى، وهو ما يبدو من «رابع المستحيلات» في ضوء تعمّق أثر العقوبات الغربية مع مرور الزمن، والسياسات الاقتصادية المتّبعة في إدارة الأزمة، وتعاظم نفوذ شبكات اقتصاديات الحرب. لكن إلى الآن، ليست هناك بيانات حكومية معلَنة ترصد معدّل التضخّم الذي أصاب البلاد خلال السنوات الأخيرة، وأيّاً من الفئات السلعية كانت الأكثر تضخّماً. فالمعلَن، رسمياً، من قِبل «المكتب المركزي للإحصاء» يعود إلى عام 2020، وتالياً فإن ما هو متداوَل ليس أكثر من تقديرات اقتصاديين غير موثّقة إحصائيّاً.قبل أيام قليلة، أصدر «المركز السوري لبحوث السياسات» تقريراً تضمّن مؤشّراً مركّباً لرصد وتحليل أسعار المستهلك، التضخم، وتكاليف المعيشة على مستوى الاقتصاديات المحلّية في جميع المحافظات السورية، بما فيها تلك الخارجة عن سيطرة الحكومة، وليكون المركز بذلك أوّل جهة بحثيّة تحاول تقديم رؤية عن واقع التضخّم في المناطق الخاضعة لسيطرة «الإدارة الذاتية»، وأيضاً تلك الداخلة في نطاق سيطرة «هيئة تحرير الشام». وبحسب ما يشير إليه المركز، فإن «دليله لأسعار المستهلك» يتفرّد باعتماده نمط استهلاك مماثل للفترة الراهنة في سوريا.

تضخّم متباين
بموجب الرصد الشهري لأسعار 59 سوقاً موزّعة على 14 محافظة، وللفترة الممتدّة من تشرين الأول 2020 ولغاية حزيران 2022، يخلص دليل المركز إلى أن الرقم القياسي العام للأسعار سجّل تضخّماً سنوياً قدره 113.6% في عام 2020، و110.90% في عام 2021. أمّا خلال النصف الأول من العام الماضي، فقد سجّل معدّل التضخّم، ومقارنة مع 2021، ارتفاعاً نسبته 55.71%. وتأكيداً للأثر الكبير الذي تركه التضخّم على المستوى المعيشي للأُسر السورية، فإن نتائج الدليل تؤكد أن تضخّم أسعار السلع الغذائية سجّل في 2020 ما نسبته 132.99%، وفي 2021 حوالى 110.47%. وخلال النصف الأول من 2022، ومقارنة مع 2021، بلغ التضخّم الغذائي ما نسبته 56.71%.
على صعيد التوزّع الجغرافي، تُظهر النتائج أن المناطق، وعلى رغم تسجيلها معدّلات تضخّم مرتفعة ومتقاربة في ما بينها بعض الشيء، إلّا أنها كانت متباينة لجهة الفئات السلعية والخدمية التي سجّلت أعلى نسبة تضخّم. فالمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اتّسمت بتسجيلها أعلى معدّل للتضخّم العام والغذائي خلال الفترة الممتدّة من تشرين الأول 2020 ولغاية حزيران 2022، حيث بلغ وسطي التضخّم العام الشهري حوالى 5.4%، تليها المناطق الخاضعة حالياً لسيطرة «الإدارة الذاتية» بوسطي تضخّم شهري قدره 4.8%، فالمناطق الخاضعة لسيطرة فصائل مسلّحة في إدلب وشمال حلب بوسطي تضخّم شهري قدره 4.6%. وحافظت جميع المناطق على الترتيب نفسه من حيث التأثّر بالتضخّم العام في 2021، وتباينت من حيث التضخّم الغذائي، حيث سجّلت مناطق سيطرة «الإدارة الذاتية» أعلى مستوى من التضخّم الغذائي. أمّا في النصف الأول من 2022، فقد جاءت مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة في إدلب وشمال حلب أوّلاً من حيث التضخّم العام والغذائي، تلتها مناطق سيطرة الحكومة، ومن ثمّ مناطق سيطرة «الذاتية».
ارتفعت الأسعار بحلول منتصف عام 2022 بنحو 76 ضعفاً مقارنة مع عام 2009


في تحليله للتضخّم بحسب مجموعات الاستهلاك، يشير تقرير دليل المركز إلى أن معدّلات التضخّم اختلفت في ما بين مجموعات الاستهلاك الرئيسة. فعلى مستوى سوريا، جاءت مجموعة السكن والمياه والكهرباء والغاز في المرتبة الأولى بوسطي تضخّم شهري قدره 6.4%، تلتها مجموعة التجهيزات والمعدّات المنزلية وأعمال الصيانة بوسطي تضخّم شهري قدره 5.7%، وجاءت مجموعة النقل ثالثاً بوسطي تضخّم شهري 5.7%، ورابعاً حلّت مجموعة الأغذية والمشروبات غير الكحولية بوسطي تضخّم شهري قدره 5.5%. أمّا أقلّ مجموعة لجهة نسبة تضخّمها فهي مجموعة المشروبات الكحولية والتبغ بوسطي تضخّم شهري قدره 3.0%.
لكن هذا الترتيب يختلف تبعاً لمناطق السيطرة بفعل تأثير الأوضاع الاقتصادية السائدة في كلّ منها. ففي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، جاءت مجموعة السكن والمياه والكهرباء والغاز أولاً بتسجيلها أعلى معدّل تضخّم، حيث بلغ كوسطي شهري حوالى 6.4%، ثمّ مجموعتا الأغذية والمشروبات غير الكحولية والتجهيزات والمعدّات المنزلية بوسطي تضخّم شهري لكلّ منها بنحو 5.8%، فيما كانت مجموعة النقل أولاً في التضخّم الحاصل في مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة في إدلب وشمال حلب بوسطي تضخّم شهري قدره 6.8%، فالاتصالات ثانياً بحوالى 6%. أمّا في مناطق سيطرة «الإدارة الذاتية»، فقد سجّلت مجموعة الملابس والأحذية معدّل التضخّم الأعلى بوسطي شهري قدره 5.6%، ثمّ مجموعتا التجهيزات والمعدات المنزلية والتعليم بوسطي تضخّم شهري لكلّ منها 5.2%.

خطوط الفقر الوطنية
تخلص عملية تحليل البيانات الإحصائية السابقة إلى أن الأسعار ارتفعت بحلول منتصف عام 2022 بنحو 76 ضعفاً مقارنة مع عام 2009، وتالياً فإن «الأثر الأكبر لانعكاسات تدهور الاقتصاد السوري ظهر في تسارع انهيار الأمن الغذائي، وتغيُّر هيكل الفقر من خلال انزلاق السوريين من حالة فقراء ضمن خطَّي الفقر الأعلى أو الأدنى إلى فقراء تحت خطّ الفقر المدقع، فيما استمرار ارتفاع الأسعار بالوتيرة نفسها سيؤدّي إلى انتقال مزيد من الفقراء إلى قاع الفقر المدقع حيث تَظهر أنماط حرجة من الفقر كحالات الجوع»، لا سيما وأن الأغذية والمشروبات غير الكحولية ساهمت بما نسبته 43.6% من معدّل التضخّم الشهري. ومن خلال قياس أثر التضخّم على خطوط فقر عام 2009، فقد توصّل باحثو المركز إلى احتساب خطّ الفقر لعام 2021 ومنتصف عام 2022، وعليه فقد بلغ خطّ الفقر المدقع للأسرة، كمؤشّر للحرمان من الغذاء، ما يقارب 645 ألف ليرة سورية على مستوى سوريا في النصف الأول من 2022، وبلغ خطّ الفقر الأدنى كمؤشّر عن عدم القدرة على تلبية الحاجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة ما يقارب المليون ليرة سورية للفترة نفسها، فيما بلغ خطّ الفقر الأعلى ما يقارب 1.4 مليون ليرة سورية. وتصدّرت مناطق المسلّحين الترتيب على مستوى مناطق السيطرة لناحية ارتفاع خطوط الفقر، تلتها مناطق الحكومة السورية، ثمّ مناطق «الإدارة الذاتية». ولم تستطع الأجور اللحاق بخطوط الفقر وابتعدت عنها كثيراً خلال فترة الدراسة، حيث تَعمّقت حدّة التفاوت بين الأجور على مستوى كامل سوريا وضمن مناطق السيطرة وقطاعات التشغيل (العام والخاص والمدني)، لتعكس حالة التشظّي وغياب العدالة بين مناطق السيطرة وداخلها.