خرجت أخيراً من اثنين من أطراف الأزمة السورية، تصريحات يمكن وصفها بالمتشدّدة؛ الأولى على لسان الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، أكد فيها أن اللقاء بين الرئيسَين رجب طيب إردوغان وبشار الأسد، ليس وارداً في المدى المنظور، معدّداً «شروط» بلاده التي يعتقد بأن على سوريا التعهُّد بتطبيقها قبل أيّ لقاء محتمل، ومنها: ضمان أمن الحدود التركية - السورية، وإعادة اللاجئين، وضرب التنظيمات الانفصالية، وهو ما يعني أن أنقرة رمت الكرة في ملعب دمشق بدلاً من أن تكون الأخيرة هي التي تفرض شروطها على جارتها. عودة التشدُّد في النبرة، أتت بعد جملة تصريحات عكست استعداد تركيا لفتح صفحة جديدة مع الحكومة السورية، وذلك نتيجة «الصدّ» السوري، ورفْض الأسد لقاء إردوغان إلّا بتعهّد تركي بالانسحاب من سوريا، وضرب التنظيمات الإرهابية (أي مسلّحي إدلب و«الجيش السوري الحرّ» تحديداً). أمّا التصريح الثاني فجاء على لسان قائد «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، مظلوم عبدي، الذي قال إن قواته لن تسلِّم المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري، لأنها لم تتسلّم هذه المناطق لتسليمها، بل هي «حرّرتها»، معتبراً أن أيّ صيغة حلّ في سوريا، يجب أن تلحظ «دستوريّاً» حماية الكيان الموجود في شرق الفرات. كما دافع عن الوجود الأميركي في سوريا، كون «مهمّته الأساسية محاربة الإرهاب».وتعكس تصريحات المسؤولَين التركي والكردي، التعقيدات التي تحيط بالوضع في سوريا، والصعوبات الكثيرة التي تعترض سُبل التوصُّل إلى حلّ للأزمة. ويمكن، بدايةً، ملاحظة أن أزمة تركيا مع سوريا، لا تشبه أزمتها مع السعودية والإمارات وإسرائيل أو مصر. فقد تمّت المصالحة مع الرياض مع تخلّي أنقرة عن ملفّ جمال خاشقجي، وكذلك الأمر مع أبو ظبي، بعد تخلّي تركيا عن اتهامها الإمارات بالوقوف وراء الانقلاب الفاشل في عام 2016. كذلك، كانت رغبة أنقرة القويّة في تخفيف الضغوط الأميركية عن اقتصادها، وراء الاندفاع السريع لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. غير أن المسار الذي يمكن أن يُرسم لفتْح صفحة جديدة في العلاقات بين تركيا وسوريا، طويل ومعقّد وصعب، فيما الحديث عن إمكانية تسوية الخلافات بين البلدَين بشكل كامل في وقتٍ قريب، لا يبدو في محلّه، وذلك للأسباب الآتية:
1- إن الماضي القريب للعلاقات بين أنقرة ودمشق حافل بالتدخّلات التركية في الشأن الداخلي السوري. ولو أن تركيا التزمت مبدأ النأي بالنفس وعدم الانحياز إلى طرف دون آخر في النزاع السوري، لأمكَن تطويق الأمر في بداياته، ولَما ظهرت مشكلة اللاجئين، ولَما تحوّلت تركيا إلى جبهة طولها 911 كيلومتراً استُبيحت لدعم وتمويل ومرور المسلّحين إلى البلد الجار؛ ولَما ظهر ما يسمّى بـ«الممرّ الكردي» في شمال سوريا، ولما اضطرّت روسيا للتدخّل إلى جانب القوات السورية، ولَما نجح الأميركيون في التدخّل والتواجد في شرق سوريا لأكثر من سبب، ولَما تعرّضت تركيا لكلّ هذا القدْر من المخاطر الأمنية الداخلية.
2- تجد تركيا نفسها، اليوم، أمام مسار من العداء حفر عميقاً في الوجدان الجمعي للشعبَين التركي والسوري. وما كان لهذا الشرخ أن يحصل لولا السياسات التركية الخاطئة، والتي اختلطت فيها الأطماع الجغرافية في سوريا بشهوة الهيمنة التاريخية تحت مسمّى «العثمانية الجديدة» في كامل المنطقة العربية، وأحياناً الإسلامية. وما الحديث عن التهديدات الكردية للأمن القومي التركي، سوى إفرازات لأصل تلك السياسات الخاطئة.
3- تجد تركيا نفسها، اليوم، أمام قوّتَين عظميَين، هما: روسيا والولايات المتحدة، أصبحتا جارتَين جغرافيتَين لها، علماً أن الانحياز التركي في الداخل السوري وتقوية طرف على حساب آخر هما اللذان جاءا بالدِّببة إلى الكرْم التركي. وعليه، بات من الصعب على تركيا رسْم سياساتها في سوريا ومعها، على قاعدة أن هناك قوّة وحيدة في هذا البلد هي الدولة السورية، وبات عليها أن تَرسم سياساتها آخذة في الاعتبار وجود القوتَين المذكورتَين، ومعهما أيضاً إيران وحلفاؤها.
4- كان للولايات المتحدة دور مهمّ جداً في دعْم «الوحدات الكردية» في شمال شرق سوريا، وخلْق حالة كيانيّة تتوجّس منها تركيا ويمكن أن تترك أثراً على وحدتها الداخلية. والدعم الأميركي للكيانية الكردية ما كان ليكون هدفاً بذاته لولا أن واشنطن وجدت في القوات الكردية الأداة الأنسب لتصبح عاملاً مؤثّراً في سوريا، بما يَخدم أهدافها المزعزعة للاستقرار في هذا البلد، والمضعفة لوحدة أراضيه. وفي النهاية، كلّ ذلك يَخدم المصلحة الإسرائيلية. والواضح أن أنقرة حزب «العدالة والتنمية»، وبسبب غشاوة أطماعها التاريخية، كانت قاصرة عن رؤية الهدف الأبعد لسياسة واشنطن في ضرْب سوريا وتقسيمها وإضعاف دول المنطقة، بما فيها تركيا. وإلّا كيف يمكن تفسير تفضيل الولايات المتحدة التعاون مع «وحدات حماية الشعب» على التعاون مع تركيا في الملفّ السوري، وما يُسمّى محاربة «داعش»؟
5- كان واضحاً أن رغبة أنقرة في المصالحة مع دمشق، لم تكن جدّية بما يكفي؛ ولو كانت كذلك، لوجب على تركيا أن ترفق نيّتها المصالحة، بخارطة طريق واضحة ومفصّلة وعمليّة بالتعاون والتنسيق الكامليْن مع الحكومة السورية. فمجرّد القول إن اللقاء مع الأسد يمكن أن يحصل ولكن بعد الانتخابات الرئاسية، أي بعد ستّة أشهر على الأقلّ، يَحمل الكثير من الخفّة.
6- انطلاقاً من المعطيات أعلاه، يتّضح أن المراوحة ستكون سيدة الموقف في الوضع السوري، من دون أن يعني ذلك توقّف المعارك أو حتّى عمليات القصف الجويّة وربّما التوغّلات البرية التركية. وفي ضوء التجارب التاريخية في المنطقة، ولا سيما بين سوريا وتركيا، قد يكون من مصلحة البلدَين ومعهما إيران والسعودية ومصر والإمارات وغيرها من دول المنطقة، أن تنجح المعارضة في تركيا في الانتخابات الرئاسية: أوّلاً لأنها تُبدي رغبةً قويّة في المصالحة الفعليّة مع سوريا؛ وثانياً لأنّ نظاماً علمانيّاً في تركيا لا يتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا والدول العربية، كما كان الوضع عليه قبل عام 2002، سيكون أقلّ ضرراً بما لا يقاس من وجود نظام هو حزب «العدالة والتنمية» ينطلق في سياساته الخارجية من مبادئ إيديولوجية عرقيّة ومذهبية حملت من الحساسيات والعداوات الكثير ممّا لم تَعُد تحتمله شعوب المنطقة.