بعد زيارة هي الثانية من نوعها لقائد القوات الروسية في سوريا، ألكسندر تشايكو، إلى الحسكة، ولقائه مسؤولين من «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، على رأسهم مظلوم عبدي، لم تنجح الجهود الروسية، على ما يبدو، في تحقيق الاختراق المطلوب، في ظلّ تمسّك «قسد» ببقاء قوّاتها في المناطق الحدودية مع تركيا، ورفضها تسليم تلك المناطق للجيش السوري، وفق اتّفاقات سابقة تعود إلى عام 2019. وتُرجع مصادر كردية ذلك، في حديث إلى «الأخبار»، إلى تمسّك تُبديه قيادات «قسد» بالموقف الأميركي الذي تأمل أن يكون أكثر حزماً. وتَلفت المصادر إلى أن ما ناقشه تشايكو مع عبدي لم يَخرج في إطاره العام عن الطرح الروسي الهادف إلى تشريع الباب أمام انفتاح تركي - سوري، وإعطاء دفعة لمسار «أستانا» عن طريق تشجيع الحوار بين دمشق و«قسد»، وتسليم المناطق الحدودية للجيش السوري. ويحظى هذا الطرح بقبول لدى كلّ من دمشق التي أبدت مرونة في الحوار، شرط عدم مناقشة فكرة الاعتراف بـ«الإدارة الذاتية»، وأنقرة التي ترى أن سيطرة الجيش السوري على الشريط الحدودي تفي بالغرض، وتبعد «الخطر الكردي»، ما يفسّر الحشود والتعزيزات الحكومية السورية، التي يتمّ توزيعها على نقاط عديدة قريبة من خطوط التماس مع مواقع سيطرة الفصائل التابعة لأنقرة في الشمال. على أن «قسد» ترى في العرض الروسي خطوة أولى على طريق «وأد الإدارة الذاتية» المدعومة أميركياً. ومن هنا، يأتي رفضها تسليم الشريط الحدودي من دون مقابل، وإبداؤها استعداداً لترك مناطق بعينها مقابل تعهّدات كفيلة بتحصين مشروع «الذاتية»، وهو أمر مرفوض في موسكو ودمشق. وفي هذا الإطار، تشير المصادر الكردية إلى أن واشنطن سعت إلى ترسيخ هذه الإدارة كأمر واقع، من دون توفير الشروط اللازمة لاستمرارها بمعزل عن الإرادة الأميركية، سواء عبر السماح بإقامة نظام اقتصادي دائم ومتكامل لا يعتمد على المساعدات، أو حتى الوقوف بوجه أنقرة في سبيل ذلك، الأمر الذي يبقي قضية «الذاتية» ورقة بيد الأميركيين. وبحسب مصادر كردية تحدّثت في وقت سابق إلى «الأخبار»، فقد حاول هؤلاء، بدلاً ممّا تَقدّم، إحياء خطّة ربط المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية اقتصادياً، وهو ما أكده مسؤول تركي رفيع المستوى، في تصريحات إلى قناة «الجزيرة» القطرية، أوضح فيها أن الولايات المتحدة عرضت إعادة هيكلة «الذاتية»، وإبعاد الشخصيات التي ترفضها أنقرة منها، نظير استمرار الوضع القائم.
«قسد» ترى في العرض الروسي خطوة أولى على طريق «وأد الإدارة الذاتية»


في المقابل، وجدت تركيا الفرصة سانحة لربط المبادرة الأميركية بإجراءات أخرى تتعلّق بسحب ملف النفط من يد الأكراد، وهو ما يتيح لها «ضرب عصفورين بحجر واحد»؛ فمن جهة تتخلّص من أحد أبرز مصادر تمويل «قسد»، ومن جهة أخرى تتقدّم خطوة نحو دمشق عبر الوفاء بتعهّدات أطلقتها سابقاً بمساعدة الحكومة السورية في استعادة مصادر النفط. غير أن هذا الطرح يعني في المحصّلة خروج القوات الأميركية، كونها هي التي تتحكّم فعلياً بالموارد النفطية، ما من شأنه إعادة الأمور إلى النقطة الصفر. وفي هذا السياق، يَبرز تصريح عبدي الذي قال لوسائل إعلام كردية، عقب لقائه تشايكو، إنه لم يحصل حتى الآن على «ضمانات سواء روسية أو أميركية تمنع الهجوم التركي المرتقب، على الرغم من الموقف المعارض للعملية من قِبل موسكو وواشنطن»، معيداً الحديث مرّة أخرى عن إمكانية «التعاون بين قسد والجيش السوري لصدّ الهجوم»، في تكرار لمواقف سابقة لـ«قسد» خسرت بسببها مناطق عديدة.
في هذا الوقت، وعلى رغم استمرار التهديد بتوغّل بري، إلّا أن التصريحات التركية حملت في طيّاتها تبريداً مقصوداً للأجواء، عبر الحديث عن مهلة منحتها أنقرة للحلّ السياسي، الذي سيحقّق لها، في حال نجاحه، مكاسب كبيرة من دون أيّ خسائر بشرية محتملة، ستكون مكلفة جداً في ظلّ ارتباط الملف السوري بالانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في شهر حزيران من العام المقبل. ويعني ذلك أن تركيا ستُواصل السعي إلى تسوية سلمية، توازياً مع استمرار الهجمات الجوية والقصف المدفعي على مواقع «قسد»، من دون أن تغلق الباب في الوقت عينه أمام تحرّك برّي سيستهدف بشكل أساسي منبج وتل رفعت وعين العرب (كوباني)، والتي تعني السيطرة عليها ربط مناطق سيطرة أنقرة في الشمال السوري.



بيدرسن في دمشق: محاولة جديدة لإحياء «الدستورية»
على وقع التصعيد العسكري في الشمال السوري، يزور المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، دمشق، آملاً في إحياء المسار الأممي للحلّ في سوريا (اللجنة الدستورية)، والمُجمَّد منذ نحو ستة أشهر، على خلفية رفض دمشق عقد الاجتماعات في جنيف، التي تخلّت عن حياديتها، وانضمّت إلى لائحة الدول التي تفرض عقوبات على موسكو. ويعوّل بيدرسن، الذي يلتقي خلال الزيارة وزير الخارجية فيصل المقداد، والرئيس المشترك للجنة مناقشة تعديل الدستور أحمد الكزبري، والسفير الروسي في دمشق ألكسندر يفيموف، على إمكانية استئناف اجتماعات «الدستورية»، بعد ثماني جولات سابقة لم تصل إلى نتيجة، وتَبِعها تجميد لهذا المسار، الذي يحظى بدعم أميركي كونه موازياً لـ»مسار أستانا» الذي تحاول واشنطن إفشاله.
كذلك، يتطلّع بيدرسن، وفق تصريحات سابقة له، إلى إحياء مبادرته «خطوة مقابل خطوة»، والتي تقضي بتقديم تسهيلات لدمشق نظير خطوات محدَّدة. وكانت هذه المبادرة تعرّضت للإجهاض قبل أن تولد، في ظلّ رفض دمشق لها، واعتبارها إيّاها بوّابة لشرعنة الوجود الأميركي في سوريا. غير أن المبعوث الأممي يبدو هذه المرّة أكثر ثقة حول إمكانية تطبيقها، بعد إجراء تعديلات عليها، وحصوله على دعم من دول عدّة لها، ليبقى الأمر معلّقاً بنتائج جولاته المكوكية بين دمشق وموسكو وأنقرة وواشنطن، ودول الاتحاد الأوروبي.