بالتوازي مع تحرّكاتها الميدانية الاحترازية لمنع وقوع خسائر بشرية في صفوفها جرّاء العملية العسكرية التركية المتوقّعة في الشمال السوري، وأبرزها الانسحاب من نقاط عديدة على رأسها قاعدة «لافارج» جنوب شرق عين العرب (كوباني)، نشّطت الولايات المتحدة تحرّكاتها السياسية أيضاً، في ما يبدو محاولة لاستثمار الظروف المتوتّرة في المنطقة. وفي هذا الإطار، تُحاول واشنطن إعادة إحياء عرْض قديم لأنقرة، بفتح قنوات التواصل بينها وبين «قسد» لتحقيق ما تَعتبره الأولى «تنمية اقتصادية شاملة» للشمال السوري، عبر استثمار استثناءات قانون العقوبات الأميركية (قيصر) في مناطق تسيطر عليها كلّ من «الإدارة الذاتية» وتركيا هناك، من دون أن تشمل مواقع كانت احتلّتها القوّات التركية بعد طردها الأكراد منها، مِن مِثل عفرين وتل أبيض.وتوضح مصادر كردية، في حديث إلى «الأخبار»، أن الولايات المتحدة ترى أن الحلّ الأمثل للتوتّر الحاصل حالياً، هو ربْط المصالح الاقتصادية الكردية بتلك التركية. ولذا، فهي أعادت الحديث عن تشريع أبواب الحوار، بهدف إيجاد مخرج يضمن استمرار «الإدارة الذاتية»، ويزيح في الوقت نفسه عن كاهل تركيا الكثير من الأعباء الاقتصادية المتراكمة عليها في مناطق سيطرتها في الشمال. غير أن أنقرة، بحسب المصادر، جدّدت رفْضها هذا العرض، بعد تجارب فاشلة في السابق، وصلت فيها النقاشات إلى طرق مسدودة، في ظلّ استئثار حزب «الاتحاد الديموقراطي» (الذي تَعتبره تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني) بحُكم منطقة «الذاتية»، ورفْضه توسيع حضور «المجلس الوطني الكردي» المدعوم من تركيا وكردستان العراق.
وشملت التحرّكات الأميركية الجديدة، اتّصالاً مباشراً بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره التركي خلوصي أكار، عبّر خلاله الأوّل عن «قلقه من تصاعُد الوضع»، مُعلِناً، وفق بيان أصدره «البنتاغون»، معارضته «القوية» لهذا التصعيد. إلّا أن أنقرة ردّت على ذلك بتأكيد نيّتها الاستمرار في العملية، التي تَعتبرها قانونية «وفق حقوق الدفاع عن النفس، من أجل ضمان أمن دولتنا وحدودنا»، بحسب ما ذكرت وزارة الدفاع التركية نقلاً عن أكار، لافتةً إلى أن الأخير قدّم تطمينات لنظيره الأميركي حول سلامة قوات «التحالف الدولي» في سوريا. وفي وقت أفادت فيه المصادر الكردية، «الأخبار»، بأن الولايات المتحدة لم تقدّم أيّ وعود قاطعة بمنع الهجوم التركي، فهي لفتت إلى أن مسؤولين أميركيين أكدوا استمرارهم في الضغط على أنقرة في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى التعهّد بالاستمرار في التعاون مع «قسد» في مجال «محاربة الإرهاب»، بما يشمل مُواصلة إمدادها بالسلاح اللازم. ولربّما تفسّر هذه الوعود الموقف المتعنّت لـ«قسد» في حوارها مع موسكو، حيث رفضت تسليم المناطق المستهدَفة للجيش السوري.
ترى واشنطن أن الحلّ الأمثل هو ربْط المصالح الاقتصادية الكردية بمصالح أنقرة في الشمال


وبالإضافة إلى تعويلها على إمكانية أن يدفع التلويح بعودة «داعش» إلى تصعيد الضغوط على تركيا، تتداول أوساط «قسد» حديثاً عن فاتورة كبيرة قد لا تتحمّلها أنقرة جرّاء الهجوم البرّي - مُراهِنةً في ذلك على تزويدها بأسلحة نوعية من قِبَل الأميركيين -، خصوصاً أن هذا الأخير يأتي في وقت حسّاس بالنسبة إلى إدارة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الذي يخوض في شهر حزيران المقبل انتخابات رئاسية حاسمة، وهو ما أشار إليه قائد «قسد»، مظلوم عبدي، بشكل غير مباشر، في معرض تهديده بـ«إشعال الحدود مع تركيا». في المقابل، تابعت موسكو تحرّكاتها الميدانية الهادفة إلى تأمين ظروف مؤاتية لـ«قسد» لتسليم المواقع التي تسيطر عليها في ريف حلب، في حال اتّخذت قراراً بالخصوص. ومن بين تلك الإجراءات إنشاء نقطة مراقبة جديدة في ريف حلب، بالتزامن مع استقدام الجيش السوري المزيد من التعزيزات إلى مواقع عديدة أبرزها محيط عين العرب. أيضاً، أعادت روسيا الحديث عن تهديدات رصدتها أخيراً حول سلامة قاعدتها في «حميميم» في ريف اللاذقية، حيث ذكرت أن الفصائل المتمركزة في إدلب تستعدّ لشنّ هجمات جديدة على القاعدة، الأمر الذي يعيد ربط ملفّ الأكراد بملفّ إدلب وطريق حلب - اللاذقية الذي كانت تعهّدت تركيا بفتحه مقابل إبعاد «خطر الأكراد» عن حدودها الجنوبية، وهو ما لم تَقُم به حتى الآن.
ميدانياً، تابعت الفصائل السورية المُوالية لتركيا استعداداتها للمشاركة في الهجوم البرّي، مُقدِّمةً القوائم التي طلبها الجيش التركي حول عدد المقاتلين، وجرْداً بالأسلحة الموجودة والمطلوبة، بالإضافة إلى الكتل المالية اللازمة، في حين واصلت تركيا استقدام تعزيزات عسكرية إلى ريف حلب، فيما أعلن مجلس الأمن القومي التركي، خلال اجتماعه الجديد، أنه «لن نسمح بوجود ونشاط أيّ تنظيم إرهابي في المنطقة، وسيتم اتخاذ الخطوات اللازمة لذلك». في هذا الوقت، وبينما يَكثر الحديث عن محاربة تنظيم «داعش»، الذي أكدت تركيا استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة بدلاً من الأكراد في مواجهته، أعلنت الفصائل السورية التابعة لأنقرة القبض على خمسة قياديين في التنظيم، بينهم واحد قالت إنه «مسؤول منطقة نبع السلام»، ويدعى حمد خالد علي الملقَّب بـ«أبو سيف تدمري»، وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان «داعش» تعيين زعيم جديد له، خلَفاً لزعيمه السابق الذي قُتل خلال عملية أمنية قادها الجيش السوري في درعا.