في مواجهة ما تَعتبره نقصاً في الموارد والإمكانات، لجأت الحكومة الحالية، منذ تسلّمها مهامها، إلى اتّباع سياسة اقتصادية قالت إنها أقرب إلى عملية «إدارة الندرة»، فيما يفضّل اقتصاديون وصْفها بأنها مجرّد مجموعة إجراءات هدفها توفير الحدّ الأدنى من مقوّمات إبقاء الاقتصاد السوري على قيْد الحياة. إلّا أن تنفيذ تلك الإجراءات شابته كثير من الأخطاء والتجاوزات وعمليات الفساد، إذ مثلاً في الوقت الذي تُخصّص فيه هذه الحكومة سنوياً كمّية قدْرها 50 ليتر مازوت فقط تدفئةً لكلّ أسرة بالسعر المدعوم، وتَمدّها بأربع ساعات تغذية كهربائية يومياً في أفضل الأحوال، تدير ظهرها لفاقد كهربائي تتجاوز نسبته 40% وفق التقديرات الرسمية، ولسوق سوداء واسعة باتت تتحكّم بحياة السوريين، ولفساد كبير في مؤسّساتها ومشروعاتها، ولسوء وهدر متعاظمَين في توزيع الموارد والإمكانات.«اقتصاد البقاء» لم يَعُد سِمة السياسة الحكومية المُدارة اليوم فحسب، وإنّما بات كذلك سِمة النشاط الاقتصادي لمعظم الأُسر السورية، التي تَحوّل هاجسها الأساسي من تحسين مستوى معيشتها إلى توفير الاحتياجات الضرورية للبقاء. إذ اضطرّتها موجات غلاء أسعار السلع الأساسية، وتضاؤل الدُخول وفرص العمل المتاحة، إلى اتّباع سياسات تأقلم أصبحت تهدّد الحالة التغذوية لشريحة واسعة منها. فمثلاً، بحسب تقديرات منظّمة «اليونيسف» هذا العام، فإن هناك 6.5 مليون طفل في سوريا بحاجة إلى المساعدة، فيما خلص مسح الأمن الغذائي الذي جرى في نهاية عام 2020 إلى أنه و«نتيجة قلّة الطعام أو المال اللازم لشرائه، يتمّ اللجوء إلى نوعيات أقلّ تفضيلاً أو سعراً، أو الاقتراض، أو تخفيض الكمّيات، أو الوجبات المتداولة، أو إنتاج الغذاء ذاتياً، أو يتمّ تفضيل الأطفال في الأسرة بالغذاء على حساب البالغين، أو يتمّ اللجوء إلى التسول». والوضع اليوم بات أخطر مقارنة بما كان سائداً قبل حوالى عامَين، حيث تذهب التقديرات إلى أن معدّل التضخّم زاد خلال عام 2021، بحوالى 55% مقارنة بالعام السابق.

الخلاص الفردي
دفعت الإجراءات الحكومية، وما رافقها من عجز كبير عن توفير الاحتياجات الأساسية، إلى تبنّي ثقافة الخلاص الفردي، والتي تتبدّى ملامحها في عودة كثير من الأُسر الريفية إلى تنويع محاصيلها الزراعية بُغية سدّ بعض من احتياجات أفرادها، وفي الحلول الفردية لأزمة الطاقة الكهربائية وغيرها من المشكلات اليومية. وعليه، فإن افتقاد سياسات التأقلم المتّبعة، أو ما يُصطلح على تسميته بـ«اقتصاد البقاء»، لاستراتيجية اقتصادية فعّالة على المستوى الوطني، يجعلها أقرب، بحسب ما يرى الخبير التنموي نوار عواد، إلى «اقتصاد الفناء، خصوصاً في ظلّ التغيّرات الكبيرة والسريعة في كلّ العالم، والتي تخضع لمؤثّرات مختلفة ومترابطة، منها تكنولوجية تؤثّر على نُظم العمل، ومنها ثقافية وإنسانية تعيد تعريف أولويات البشرية، ومنها اقتصادية تعيد طرح آفاق كبيرة لنماذج جديدة لأنظمة السوق وتقييم القيمة المضافة وسلاسل التوريد والقيمة». ويضيف نوار، في تصريح إلى «الأخبار»، مُوصّفاً الوضع الاقتصادي المحلّي: «على المستوى الكلّي، كُنّا مورّدين لقيم مضافة قليلة نسبياً، ومستوردين بقيم مضافة مرتفعة. نقل المعرفة كان فردياً وتوطينها كان محدود الأثر، بيئة العمل نابذة للتحديث على مستوى النماذج ومستجيبة للطلب والحاجة بشكل آني. ما سبق أدّى إلى تموضع الأطراف المختلفة بشكل تكُون فيه التشاركية محدودة الأثر ومقتصرة على الحوار دون الفعل. من جهة أخرى، وفي مقابل انعدام الثقة في المجموع وبين اللاعبين، تطوَّر نمط ثقة لدى الأفراد في قدرتهم الذاتية على إيجاد حلول، وعلى النجاة بشكل فردي».
يُؤخذ على المبادرات المحلّية أنها تعمل بشكل معزول عن أيّ استراتيجية أو خطّة حكومية


ومع أن البعض يرى في الجهود الفردية والأهلية الساعية لابتكار حلول لبعض المشكلات الاقتصادية والخدمية، جزءاً من مسؤولية المجتمع؛ إذ بحسب اعتقاد هؤلاء، فإن مؤسّسات الدولة ليست وحدها المعنيّة بتحمّل مِثل هذه المسؤولية كما في السابق، إلّا أن «مربط الفرس» هنا يكمن في تراجع ثقة الأفراد في قدرة هذه المؤسسات على إيجاد حلول متحيّزة إلى الطبقات الفقيرة وصاحبة الدخل المحدود، أو تنفيذ ما يقترحه هؤلاء من حلول وإجراءات إنقاذية، لا سيما في ضوء الوعود الكثيرة التي أُطلقت على مدار السنوات الأخيرة، وكان المواطن يحصد عكسها تماماً، سواءً لجهة تحسين الوضع المعيشي أو تحسين مستوى الخدمات الأساسية والضرورية.

مبادرات أهلية
يلاحَظ، خلال الفترة الماضية، وجود نشاط فردي وأهلي متزايد على صعيد المبادرات، المدعومة محلّياً أو أممياً، والهادفة إلى مساعدة الأُسر على التأقلم مع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، سواءً من خلال معاونتها على إيجاد مصادر دخْل جديدة، أو تنمية واستثمار ما هو مُتاح بين أيديها. وعلى أهمّية تلك المبادرات في هذه المرحلة، إلّا أنه يُؤخذ عليها أنها تعمل بشكل معزول عن أيّ استراتيجية أو خطّة حكومية على مستوى المناطق والأقاليم، وتالياً، فإن العديد منها عبارة عن جهود مبعثرة بأهداف قصيرة الأمد. ولا تشذّ عن هذه القاعدة سوى بعض المؤسّسات الأهلية والمجتمعية التي يمتدّ نشاطها إلى ما قبل سنوات الحرب.
لكن اللافت تَوجّه بعض الخبراء والمهتمّين بالشأن العام إلى استثمار وسائل التواصل الاجتماعي في تأسيس مبادرات معرفية كـ«مجموعة المشاريع الزراعية»، التي أطلقها أخيراً الخبير الزراعي أكرم عفيف، ولاقت تفاعلاً كبيراً من المهتمّين بالشأن الزراعي والتنموي. وتهدف هذه المجموعة، بحسب مؤسِّسها، إلى «النهوض بالأُسرة السورية باعتبارها اللبنة الأساسية للنهوض بالمجتمع السوري ككلّ، وذلك بالاعتماد على ثلاث ركائز أساسية هي القيم المجتمعية، الإمكانات التي لدى كلّ أُسرة، والموارد المحلّية المتاحة». وتتبنّى المبادرة مسار التشبيك والشراكة بين مختلف الجهات الحكومية والأهلية والاقتصادية، بما يضمن زيادة الإنتاج الأسري، وتحسين جودته، وتسويقه. ولذلك، فإن عفيف يعرب عن اعتقاده، في تصريح إلى «الأخبار»، بأن «مفهوم "اقتصاد البقاء" يجب ألّا ينطبق على سوريا الغنيّة بمواردها وإمكاناتها، فما تحتاجه البلاد هو أشبه ما يكون بـ"إدارة الوفرة" تصنيعاً، تصديراً، تسويقاً داخلياً، وما إلى ذلك».
لكن ثمّة مَن يتشدّد أكثر في توصيفه السياسات الاقتصادية المتّبعة وما قادت إليه من نتائج، معتبراً أن هذه السياسات لا ينطبق عليها أيّ من التوصيفات أو التسميات السابقة لعدّة أسباب، وهذا ما يعزّز برأي الباحث عواد من «تراجع ثقافة النموّ، وتبنّي ثقافة تنمية غير واضحة المعالم والأهداف وسهلة نسبياً. ونتج من ذلك غياب البحث لتحديد الخيارات الاقتصادية الممكن تبنّيها، وليس تلك المتاحة، والاعتماد على آليات تخطيط تقليدية ضمن رؤى قطاعية، وعلى مستوى معرفي غير مؤطَّر وغير مترابط تقدّمه المنظّمات الأممية، أو مبادرات تقترح حلولاً مباشرة، ولا تعتمد البحث عن الحلول» طويلة الأمد.