في ما يبدو مخطّطاً أميركياً حثيثاً لتفخيخ الملفّ السوري وتفجيره بوجه روسيا خصوصاً، في إطار الصراع المستعِر مع الأخيرة، تُكثّف واشنطن خطواتها على هذا الخطّ، ساعيةً بشكل تدريجي إلى سحب ورقة المعارضة من يد أنقرة تحسّباً لليوم الذي ستُكمل فيه الأخيرة استدارتها نحو دمشق، وفي الآن نفسه عرقلة أيّ مسار للحلّ السياسي تتولّى قيادتَه موسكو، ويمكن أن يفضي إلى نتائج تُعزّز «الانضباط» الذي ساد الميدان في الأشهر الأخيرة. وفي وقت يتواصل فيه الحصار المفروض على دمشق ومناطق سيطرتها، تعمل الولايات المتحدة على الدفْع نحو خلْق نموّ غير متوازن سيكون من شأنه تعميق الشروخ القائمة، بالتوازي مع توسيعها الهامش السياسي الممنوح للمعارضة، بل واستحداثها تشكيلات جديدة ستمثّل عنصر ضغط إضافياً على الدولة السورية وحلفائها
عشيّة فعاليّات الدورة الـ77 من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي ستُركّز الولايات المتحدة جهودها فيها لمضاعَفة الضغوط على روسيا، تُكثّف واشنطن، في الآن نفسه، نشاطاتها داخل سوريا، إحدى ساحات صراعها مع موسكو، وذلك عبر مسارات عدّة تستهدف عرقلة الجُهد الروسي، سواءً في ضبط الميدان، أو فتْح أبواب كانت لا تزال مغلَقة، مِن مثل العلاقات بين سوريا وتركيا، والتي يبدو أنها تسير - وإنْ ببطء - نحو فتح صفحة جديدة. وكانت هذه النشاطات بدأت تظَهر إلى العلن منذ ثلاثة أشهر تقريباً، لتبلُغ ذروتها مطلع شهر أيلول الحالي، عندما ترأّست الولايات المتحدة اجتماعاً لـ«أصدقاء سوريا»، ضمّ مجموعة من الدول المناوئة لدمشق، بالإضافة إلى ممثّلين عن دول فاعلة في الملفّ السوري، وتمثّلت أولى ثماره في إطلاق حملة تشويش على قمّة الجزائر التي كان من المنتظر أن تنضمّ إليها سوريا، قبل أن تُفضّل الأخيرة الانسحاب لتخفيف الضغوط عن «صديقتها».
وتبعت تلك الحملةَ خطواتٌ أميركية عدة، سواءً على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، من بينها تقديم تسهيلات للمعارضة السورية في «الائتلاف» و«هيئة التفاوض» للتحرّك على الأراضي الأميركية، وتقديم وعود لها بمنْحها مزايا اقتصادية، من بينها مساعدات مالية، وخلْق استثمارات في مناطق سيطرتها. كذلك، بادرت الولايات المتحدة إلى إحياء مسار الحوار الكردي - الكردي وتسريعه، والعمل على تهيئة الأرضيّة لتحقيق انفتاح بين معاقل «الإدارة الذاتية» ومساحات نفوذ الفصائل في الشمال السوري، بما فيها تلك التي استولت عليها تركيا بعد طرد الأكراد منها، وهو الأمر الذي كان يشكّل سابقاً خطّاً أحمر أميركياً، حيث اقتصر دعم واشنطن واستثناءاتها من قانون «قيصر» على المناطق التي انتزعتها أنقرة بعد طرد مقاتلي «داعش» منها.
وفي أولى الخطوات العملية لتقديم جرعة إنعاش للمعارضة، أرسلت واشنطن وفداً من المستثمرين السوريين - الأميركيين، بينهم مستثمر أميركي - بحريني، إلى الشمال السوري، لبحث الفرص الاستثمارية في تلك المناطق، وسُبل الاستفادة من استثناءات «قيصر». وإذ يأتي ذلك بالتزامن مع استمرار الضغوط على مناطق سيطرة الحكومة، فإن من شأنه أن يخلق نموّاً اقتصادياً غير متوازن، ويمنع دمشق من تغيير خريطة السيطرة الحالية أو تفعيل ملفّ إعادة اللاجئين والنازحين، والذي يشكّل أحد أبرز الملفات التي تستند إليها موسكو وطهران في محاولاتهما التقريب بين أنقرة ودمشق. وإلى الآن، لا تزال الولايات المتحدة تعرقل تنفيذ قرار مجلس الأمن 2642، والذي ينصّ على إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا وفق آلية جديدة تشمل في الآن نفسه الخطوط (أي عبر دمشق) والحدود (معبر باب الهوى)، بالتوازي مع إعطاء دفعة لعملية «التعافي المبكر»؛ إذ لم تلمس دمشق حتى الساعة أيّ تَحرّك جدّي في اتّجاه تطبيق القرار الذي جاء بدفْع من موسكو، الأمر الذي حمل نائب وزر الخارجية السوري، بشار الجعفري، إلى الإعراب عن انزعاج بلاده من هذا الواقع.
تُعرقل الولايات المتحدة تنفيذ قرار مجلس الأمن 2642 المتعلّق بالمساعدات الإنسانية


وبالإضافة إلى خطواتها على المستوى الاقتصادي، بدأت الولايات المتحدة خلْق تشكيلات معارِضة جديدة ستنْشط على أراضيها، لتُشكّل حلقة وصْل مع مناطق سيطرة المعارضة في سوريا، على نحْوٍ يمكّن واشنطن من تعظيم تأثيرها على الوسط المعارِض، ومواجهة أيّ استدارة تركية غير مرغوبة في الفترة المقبلة. وفي هذا السياق، عُقد في واشنطن اجتماع هو الأوّل من نوعه لسوريين يحملون الجنسية الأميركية تحت اسم «مؤتمر الميثاق الوطني السوري»، بهدف وضع اللبِنة الأولى لـ«مؤتمر شامل يضمّ كلّ السوريين»، بحسب المنظّمين. وتعني هذه الخطوة، في حال استمرارها وتَطوّرها، السعي لتحويل مركز نشاط المعارضة من إسطنبول إلى واشنطن. كذلك، يُنتظر خلال الأيام المقبلة، وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أن ترتفع وتيرة النشاط الأميركي على الساحة السورية، خصوصاً مع وضع جدول دقيق لتحرّكات ممثّلين عن المعارضة (الائتلاف)، وآخرين عن معارضة واشنطن المحدَثة، وقسم ثالث عن لجان معارِضة تعمل في المجال الإنساني، بهدف إعادة الحدث السوري إلى الواجهة، واستثمار الفعالية العالمية في إطار مضاعفة الضغوط على روسيا، ومحاولة إفشال مسار «أستانة».
والظاهر أن التحرّكات الأميركية أزعجت أنقرة التي حاولت خلال الفترة الماضية تشديد قبضتها على المعارضة السورية، وإعادة ترتيبها بشكل يُسهّل التحكّم فيها، لتأتي تلك التحرّكات وتثير ارتياب تركيا في كوْن الولايات المتحدة ساعية إلى عملية سحب تدريجي لورقة المعارضة من يدها، خصوصاً أن التدخّل الأميركي تزامَن مع ارتفاع الأصوات، في أوساط المعارِضين، بالتنديد بالتقارب مع دمشق. وفي هذا السياق، ترى مصادر سورية معارِضة أن الأنباء المنتشرة بين وقت وآخر حول تهديد أنقرة بطرد «الائتلاف» - وهي أنباء نفاها الأخير مراراً - تأتي في سياق التحذيرات التركية غير المباشرة له من الارتماء بشكل كامل في أحضان الولايات المتحدة. وتُشير المصادر، في حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن تركيا تحاول خلْق توازن يسمح لها بالاستفادة من المزايا الأميركية الاقتصادية بما يخفّف من أعباء تَدخّلها في سوريا، من دون أن يؤثّر ذلك على تَحكُّمها المطلق بالمعارضة، أو يشوّش على خطوات تطبيعها مع دمشق، والتي تحاول استثمارها للتخلّص من عبء اللاجئين السوريين، وإبعاد «الخطر الكردي» عن حدودها، بالتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية. من جهتها، تُتابع روسيا نشاطها المعتاد وفق قواعد «مسار أستانا»، حيث استضافت الخارجية الروسية ممثّلين عن تشكيلات معارِضة ووجهاء لمناقشة سُبل تنشيط عملية التسوية، في وقت علَت فيه وتيرة الغارات المشتركة مع سلاح الجوّ السوري على مواقع لفصائل متشدّدة، والتي تمَثّلت آخرها في غارات استهدفت معسكراً لتدريب المقاتلين في ريف إدلب، أعلنت موسكو أنها نجحت في القضاء على مدرّبين أجانب كانوا ينشطون في المعسكر.



تشاؤم أممي بالمستقبل
حذّرت «اللجنة الدولية المستقلّة لتقصّي الحقائق بشأن سوريا»، التابعة للأمم المتحدة، من مخاطر الانزلاق إلى تصعيد جديد في هذا البلد، في ظلّ «صعوبات متزايدة لا تُطاق» يُواجهها السوريون. وقالت عضو اللجنة، لين ويلشمان، إن «الغارات الإسرائيلية على سوريا في الفترة الأخيرة عرقلت إيصال المساعدات الإنسانية إلى البلاد»، موضحةً أن «الهجمات التي طاولت مطار دمشق الدولي عطّلت إرسال شحنات» من هذه المساعدات، التي يتمّ تمريرها عبر خطوط التماس إلى المطار، وتُشرف الحكومة السورية على إيصالها إلى المستفيدين منها. وإذ أشار التقرير المطوَّل المؤلَّف من 50 صفحة، والذي تتبّع حالة حقوق الإنسان في سوريا بين 1 كانون الثاني و30 حزيران الماضيَين، إلى أن التعبئة القتالية لا تزال مستمرّة، فقد ذكر أن «العائلات التي تعيش على الخطوط الأمامية لخطّ المواجهة، تتحمّل العبء الأكبر»، محذّراً من أن «استمرار انخراط أطراف أخرى في أنشطة عسكرية في المجال الجوّي السوري أو على الأرض، لا يفضي إلى حماية المدنيين في أيّ جزء من سوريا بأيّ شكل من الأشكال».
ووصف التقرير، العام الحالي، بأنه «الأسوأ على صعيد الوضعَين الاقتصادي والإنساني»، مبيّناً أن «نحو 14.6 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية، ما يفرض مزيداً من الضغوط على المنظّمات الأممية التي لم تنجح في سدّ حاجتها خلال حملات التمويل السابقة». والظاهر أن الولايات المتحدة تحاول استثمار هذا الواقع عبر الإعلان عن تقديم 756 مليون دولار للمساعدات الإنسانية في سوريا، ذكرت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، أنها ستساهم في «توفير المياه النظيفة والغذاء وإمدادات النظافة والمأوى وخدمات الحماية والمساعدة الصحّية والتغذوية، كما ستدعم برامج التعافي المبكر في جميع أنحاء البلاد»، مُجدّدةً مُطالبتها بتمديد آلية المساعدات عبر الحدود في كانون الثاني المقبل، لمدّة 12 شهراً إضافياً. ومن المنتَظر أن يتجدّد الصراع على هذا الملفّ مع انتهاء مفاعيل آلية الإدخال الحالية، والتي تمّ ربطها بتقديم دفعة واضحة لمشاريع التعافي المبكر، لم تَظهر لها أيّ بوادر على الأرض حتى الآن.