لم تكن ردّة فعل «هيئة تحرير الشام» العنيفة على محاولة مئات السوريين العبور نحو تركيا للانضمام إلى «قافلة النور» المُتّجة إلى أوروبا، مفاجِئة أو خارجة عن المألوف، بقدْر ما هي ترجمة للدور الذي يلعبه زعيم الهيئة، أبو محمد الجولاني، بوصْفه حارس الحدود التركية ومستثمِرها. وانطلاقاً من هذه الصفة وما تستبطنه من أدوار و«امتيازات»، تجد أنقرة صعوبة في مقابَلة الخطوة السورية المتمثّلة في افتتاح مركز للمصالحة في إدلب، بخطوات مماثلة مِن قبيل افتتاح معابر إنسانية للنازحين واللاجئين، وذلك بفعل الخشية من تسرّب السكّان من «إمارة الجولاني» إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية، مع ما يعنيه هذا من تهديد للمشروع الذي اشتغلت تركيا طويلاً على تنميته والاستثمار فيه
مرتدياً بزّة عسكرية، وضمْن مراسم تحاكي تلك الرسمية المعروفة في الدول، وقف زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، الأسبوع الماضي، ليشرف على تخريج أوّل دفعة من «الطلّاب الضباط» من الكلّية الحربية التي قام بإنشائها في إدلب، حيث تمّ تخريج 400 «طالب ضابط» ضمن دورة حملت اسم «أبو عمر سراقب». والأخير هو أحد قادة «جيش الفتح» الذي تَشكّل من تجمّع فصائل اقتحمت مدينة إدلب وسيطرت عليها عام 2015، قبل أن يُقتل إلى جانب عدد من القيادات إثر غارة جوّية اتّهم «جيش الفتح» المنحلّ، حينها، «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة، بتنفيذها، فيما تدور شكوك حول الدور الذي لعبه الجولاني فيها، خصوصاً أنها أدّت بالمحصّلة إلى تخليصه من عدد من مُنافسيه على زعامة إدلب. وتُعتبر الكلّية الحربية، التي استُحدثت في تشرين الأول من العام الماضي بدعم وإشراف تركي مباشر، جزءاً من حملة كبيرة قادتها أنقرة، بدأت بفكّ ارتباط الجولاني بتنظيم «القاعدة»، ومن ثمّ تحويله إلى العمل المؤسّساتي بشكل تدريجي، عبر تشكيل «حكومة الإنقاذ» التي تولّت عمليات «مأسسة» الجماعة، وتوغّلت في جميع مفاصل الحياة في إدلب.
وخلال خمسة أعوام، نجح الجولاني في التهام سوق إدلب بشكل شبه كامل، حيث سيطر على جميع القطاعات الخدمية، بدءاً من المخابز، مروراً بالاتصالات عبر شركة «سيريانا» المرتبطة بشركة اتصالات تركية، والكهرباء التي يستجرّها عبر شركة «Green Energy» من تركيا، والنفط الذي يحتكره عبر شركة «وتد» التي تدور شكوك حول الأطراف التركية المساهِمة في تأسيسها، ومن بينها صهر الرئيس التركي، برات آلبيراق، الذي كشفت تسريبات قبل نحو أربعة أعوام تَورُّطه في تجارة النفط مع «داعش»، بالإضافة إلى الشركات العقارية والنقل الداخلي (شركة زاجل)، وصولاً إلى الاستثمارات الزراعية والصناعية. ومن خلال نظرة إلى شبكة العلاقات المعقّدة التي نسجها الجولاني مع أطراف عدّة (معظم الاستثمارات تتمّ بشراكة مع أطراف تركية)، والدور الأمني الكبير الذي يلعبه قرب الحدود التركية، حيث يسيطر على معبر «باب الهوى» الحدودي، ويشرف على عدد كبير من المخيّمات، وعلى مناطق يتمّ تنفيذ مشاريع «مدن الطوب» التركية فيها، يمكن أن تتّضح أسباب التمسّك التركي به، خصوصاً بعد إظهاره تبعيّة مطلقة لأوامر أنقرة، واشتغاله على حماية القواعد التركية، وتشكيله شبكة أمنية لصالح الأتراك من دون أن يكلّفهم أيّ مصاريف، بل وتوفيره لكثير من المتنفّذين الأتراك أرضاً استثمارية خصبة.
خلال خمسة أعوام، نجح الجولاني في التهام سوق إدلب بشكل شبه كامل


إزاء ذلك، تَطرح خطوات التقارب بين أنقرة ودمشق، المدفوعة روسياً وإيرانية، التساؤلات حول مآل الموقف التركي من هذه الشبكة المعقّدة من المصالح، مقارنة بتلك التي سيحقّقها الرئيس رجب طيب إردوغان من الانفتاح على سوريا، سواءً لناحية التخلُّص من عبء اللاجئين، أو إبعاد «الخطر الكردي» عن الحدود التركية، وكلاهما ملفّان يمثّلان عنواناً رئيساً للصراع الانتخابي الرئاسي في تركيا. وبينما تقدّمت دمشق خطوة نحو أنقرة، عبر افتتاح مركز مصالحة خاص بإدلب في مدينة خان شيخون الأسبوع الماضي، لا تزال التحرّكات التركية المقابِلة خجولة، حيث لم يتمّ حتى الآن فتح معابر لمرور النازحين والراغبين في العودة إلى قراهم في ريفَي إدلب وحماة، أو الراغبين في الخروج من إدلب، وسط حديث عن استعدادات لفتح ثلاثة معابر من هذا النوع. والظاهر أن أنقرة تخشى، في حال اتّخاذ هكذا خطوات، تشريع الأبواب أمام حملة خروج كبيرة من إدلب، تُفقد «دويلة الجولاني» الصورة التي حاولت تركيا، ولا تزال، رسمها لها، خصوصاً أن تدفّق النازحين بدأ بالفعل من خلال معابر جانبية، سواءً من ريف حلب الشمالي أو حتى من بعض مناطق إدلب، وذلك بواسطة شبكات تهريب تُديرها فصائل معارضة.
وأمام هذه الظروف، يمكن فهم الظهور المتكرّر للجولاني في الآونة الأخيرة، وجولاته المستمرّة، ومحاولته «منْح» مزيد من الحرّيات لبعض الأقلّيات، إذ تبدو هذه التحرّكات مدفوعة بشكل مباشر من أنقرة، التي ترغب في ترسيخ شكل من أشكال الحياة المدنية في إدلب في أسرع وقت ممكن، بالتوازي مع السعي لطمأنة اللاجئين السوريين المقيمين هناك إلى أن ظروف إقامتهم لا تزال ملائمة، بما يضْمن استمرار «دويلة الجولاني»، ويمنع تسرّب الكثير من سكّانها في حال تمّ فتح المعابر الإنسانية. غير أن تلك المساعي لا تؤتي إلى الآن ثمارها بالنسبة إلى أنقرة، في ظلّ استمرار خروج العائلات إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية من جهة، والحشد الكبير الذي وجدته تركيا يقرع أبوابها سعياً للوصول إلى أوروبا، قبل أن يقمعه الجولاني، حارس الحدود التركية ومستثمرها، بالقوّة.