مع تعاظُم المخاوف حيال التأثيرات المحتمَلة لتراجع قيمة الدعم الدولي المُقدَّم سنوياً للسوريين المتضرّرين من الحرب، فإن الأولوية لم تَعُد فقط لتصحيح آليات الاستهداف وبرامجه، التي تعتمدها المؤسّسات الأممية والدولية في توزيعها المساعدات الإغاثية، وإنّما باتت الحاجة ملحّة اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، إلى مراجعة فعالية الإنفاق، خصوصاً في ظلّ الارتفاع غير المبرَّر في التكاليف الإدارية واللوجستية على حساب المساعدات التي تصل إلى الأسر المحتاجة. وتَسبّبت صعوبة الأوضاع الاقتصادية التي تُواجهها مناطق البلاد المختلفة، خلال العامَين الأخيرَين، بحدوث زيادة كبيرة في معدّلات الفقر وانعدام حالة الأمن الغذائي بين الأسر. وعلى هذا، فإن الملفّ الإغاثي في سوريا أصبح في مواجهة معادلة صعبة، أحد طرفَيها يكمن في انخفاض قيمة الدعم الدولي مقارنةً بالسنوات السابقة، وذلك نتيجة عدّة عوامل من بينها الأزمة الأوكرانية وتداعياتها؛ فيما الطرف الآخر متمثّل في زيادة عدد الأسر والأفراد المحتاجين.
نفقات تزداد سنوياً
ما خرج به مسح الأمن الغذائي الأخير من نتائج، لجهة وجود انحرافات في توزيع المساعدات الإغاثية، لم يكن مفاجئاً في ضوء المشاهدات الشخصية واليومية للعامّة من الناس، لكن لم يتوقّع أحدٌ ربّما أن تكون نسبة تلك الانحرافات كبيرة إلى هذا الحدّ. مثلاً، بحسب تلك النتائج، فإنه من بين الأسر التي تلقّت مساعدات من الأمم المتحدة ومنظّمات دولية، سُجّلت نسبة 9.3% فقط لمَن تعاني منها من انعدام شديد في أمنها الغذائي، في حين يُفترض أن تكون نسبتها هي الأعلى باعتبارها الأكثر حاجة، وإذ ينسحب هذا الخلل على جميع أشكال ومصادر المساعدات: حكومي، غير حكومي، «هلال أحمر»، وغير ذلك، فهو يصبح أكثر فجاجة مع وجود مفارقتَين أساسيتَين: الأولى تتمثّل في المعطيات الإحصائية الرسمية، التي تؤكد أن 4.1% من الأسر الحاصلة على مساعدات أممية عام 2020 كانت آمنة غذائياً، وتالياً فهي لم تكن بحاجة إلى هذه المساعدات أو بالأحرى يفترض ألّا تكون مستهدَفة بها؛ والثانية تكمن في حجم ما يتمّ إنفاقه سنوياً من قِبَل منظّمات الأمم المتحدة على تنفيذ ما بات يُعرف بخطّة الاستجابة الإنسانية من خدمات عامة وتنسيق، ودعم لوجستي، رواتب وتعويضات للعاملين، وغيرها.
وتسود قناعة لدى كثيرين بأن هذه النفقات مبالَغ فيها، بالنظر إلى مقرّات الإقامة الفندقية، وأسطول السيارات الموضوع في الخدمة، ومظاهر أخرى. ولا تأتي البيانات الأممية إلّا لتُعزّز القناعة المُشار إليها؛ إذ بحسبها، فإن نسبة التغطية لقطاع التنسيق، والذي هو قطاع إداري لا يتعلّق بالإنفاق المباشر على الاحتياجات الإنسانية، وصلت في عام 2013 إلى 117% من إجمالي التمويل المطلوب له، كما وبلغت نسبة تغطية قطاع الاتصال والطوارئ 93%، والحال نفسه ينسحب على قطاع اللوجستيات والذي بلغت نسبة تغطيته أيضاً حوالى 93%، بينما لم تتجاوز النسبة في قطاع التعافي المبكر وسبل العيش أكثر من 16%. وفي عام 2015، حافظ قطاع التنسيق والخدمات العامة على نسبة تغطية عالية بلغت حوالى 80%، فيما وصلت النسبة في قطاع اللوجستيات إلى 37%، وهي أعلى من نسب تغطية قطاعات جوهرية كالتعليم (23%)، الصحة (35%)، التعافي المبكر وسبل العيش (27%).
البحث في بيانات الأمم المتحدة لعدّة سنوات يوصل إلى معلومات هامّة وأرقام مفاجئة


وتأكيداً لكوْن ذلك الواقع مرتبطاً بالبيروقراطية الأممية، أكثر منه بظروف الحرب وتداعياتها، فإن البيانات الأممية نفسها تشير إلى أن نسبة تغطية قطاع التنسيق والخدمات العامة في خطّة عام 2021، وصلت إلى أكثر من 68% من إجمالي التمويل المطلوب، وإلى 63% في قطاع اللوجستيات، وهما نسبتان أعلى من نِسَب التغطية المتحقِّقة في جميع القطاعات المرتبطة مباشرة بالاحتياجات الإنسانية للسوريين. فمثلاً، نسبة تغطية قطاع التعافي المبكر وسبل العيش لم تتجاوز 8%، والأمن الغذائي والزراعة 29%، والتعليم 22%، والصحة 37%، والإيواء والمساعدات غير الغذائية 17%. وحتى عندما يذهب الاهتمام البحثي النادر في هذا المجال إلى المقارنة بين المساعدات الإغاثية وتلك التنموية، فسيَثبت أن المساعدات، بحسب ورقة بحثية خاصة حصلت عليها «الأخبار»، هي «بمجملها مساعدات تلبّي الجانب المعيشي، ولا تتضمّن برامج ذات أثر تنموي بالمعنى الفعلي، على رغم أن الحكومة عملت على أن تُعنى الخطط اعتباراً من عام 2014 بالأبعاد المتعلّقة بتعزيز التعافي المبكر ودعم سبل العيش، لكن البرامج المُطبَّقة ونسبة تمويل هذا القطاع من إجمالي التمويل المُحقَّق لخطط الاستجابة، يبقى محدوداً مقارنةً مع القطاعات ذات الطبيعة الإغاثية».

ما خفي أعظم
يبْقى السؤال الأهمّ: على ماذا تنفَق الأموال التي تخصَّص سنوياً لقطاعات الخدمات العامة واللوجستيات وغيرها؟ إلى جانب رواتب وتعويضات الخبراء والعاملين الأجانب في المشروعات الأممية المنفَّذة في سوريا، والتي تُثار حولها تكهّنات كثيرة إلى درجة الحديث عن أرقام سنوية كبيرة يتقاضاها هؤلاء بحجّة ارتفاع مخاطر العمل وتعويضات الإجازات وتكاليف السفر، فإن البحث في بيانات الأمم المتحدة لعدّة سنوات يوصل إلى معلومات هامّة وأرقام مفاجئة. إذ في الوقت الذي لا تتمكّن فيه أُسر سورية كثيرة محتاجة من الحصول على دعم إغاثي يساعدها على تأمين بعض الاحتياجات الأساسية لأفرادها، تُظهر الحسابات الأوّلية المستندة إلى بيانات المنظّمة الدولية نفسها أن إجمالي ما تمّ إنفاقه على الإقامة والاستفادة من خدمات الفنادق وبعض الشركات السياحية في سوريا خلال السنوات الممتدّة من عام 2015 ولغاية عام 2020، وصل إلى أكثر من 70.7 مليون دولار، أي ما يقرب وسطياً من 11.7 مليون دولار في العام الواحد. وهذا مبلغ يكفي وفق سعر الصرف الرسمي لتأمين سلّة غذائية شهرية بقيمة 150 ألف ليرة لأكثر من 16 ألف أسرة.
أكثر من ذلك، فإن فاتورة فندق خمس نجوم مشهور في دمشق، وصلت خلال السنوات الستّ المُشار إليها سابقاً إلى حوالى 30 مليون دولار، أي ما معدّله الوسطي سنوياً 5 ملايين دولار. واللافت في قائمة الفنادق المتعاقدة مع المنظّمات الأممية، أنها جميعاً من فئة الخمس نجوم وموزَّعة على جميع المحافظات السورية. والحال نفسه ينسحب على شركات الحماية والحراسة وبرامج السلامة، والتي سَجّلت فاتورتها خلال الفترة نفسها حوالى 8.3 ملايين دولار. أمّا شركتا الاتصالات الخليوية في البلاد، فإن التقديرات الأوّلية للبيانات التي تمّ الحصول عليها، تشير إلى أنهما حصلتا على 1.8 مليون دولار جرّاء ما قدمتاه من خدمات واتصالات للمشروعات الأممية بين عامَي 2015 و2020. فهل يمكن أن تكون هناك مراجعة أممية لجوانب الإنفاق الإداري واللوجستي لمشروعات المنظّمة الإغاثية والتنموية في سوريا في ضوء التحدّيات التمويلية، والتي تزداد صعوبة يوماً بعد يوم؟ ولماذا لا تتمّ الاستعانة بالخبرات الوطنية الحقيقية في جميع المناطق التي تشملها تلك المشروعات تخفيفاً للنفقات؟