منذ عشرات السنين، يطالب المزارعون في الساحل السوري بإنشاء معمل للعصائر لاستيعاب الفائض من محصولهم، والذي يُرمى جزء كبير منه في القمامة نظراً إلى سوء تصريفه. وبينما أُعلن عام 2019 عن منْح رخصة لإنشاء أوّل معمل من هذا النوع، إلّا أنه إلى اليوم لم يتمّ وضع أيّ حجر في بنائه، ما جعل اتّحاد الفلاحين يعاود مناشدة وزارة الصناعة السورية التدخُّل لإتمام المشروع. هذه الدوّامة تمثّل نموذجاً ممّا تُواجهه المشاريع الحيوية التي من شأنها أن تسهم في عملية التنمية والنهوض الاقتصادي، والتي تُخاطب احتياجات المواطن وواقعه المعيشي، فيما تزدهر في المقابل المشاريع الترفيهية، والتي لا تستفيد منها سوى طبقة ثريّة جدّاً مستعدّة للاستثمار في الرفاهية واستهلاكها. لكن بالنتيجة، الرفاهية في بلد مِثل سوريا لا تُطعم خبزاً
تشهد سوريا إعلانات مستمرّة عن منْح تراخيص لمؤسّسات صناعية واقتصادية إنتاجية، لكنّها تبقى في كثير من الأحيان حبراً على ورق، بينما تنمو وتزدهر بشكل متسارع المشاريع الترفيهية التي يملك معظمَها رجالُ أعمال وشخصيات صعد اسمها في سوريا بعد اندلاع الأزمة عام 2011، وهي مشاريع لا تبدو البتّة منسجمة مع احتياجات السوريين وواقعهم المعيشي، الأمر الذي يَظهر من خلال ردود فعل المواطنين على هذا النوع من الاستثمار، والذي يصفونه بالمُنفصل عن الواقع. من خلال جولة بسيطة على أوتوستراد المزة في العاصمة دمشق، ستصادف المواطنَ العديدُ من المطاعم الجديدة، والتي يعمل في بعضها موظّفون أجانب. وعلى بُعد أمتار من الأوتوستراد، تُبنى تباعاً أبراج مشروع «ماروتا سيتي»، والتي يبلغ سعر المتر فيها على الإنشاء قرابة 8 ملايين ليرة سورية، بينما لا تغيب عن الناظر صورُ إعلانات الهواتف الحديثة من «آيفون» وغيره، والتي تستوردها شركات سورية وتبيعها في السوق المحلّي حتى قبل أن تصل إلى عواصم دول الخليج مثلاً، على رغم ما تُعانيه سوريا من أزمة خانقة وصعوبة في توفير العملات الأجنبية لاستيراد الاحتياجات الأساسية.
هذه المشاريع وتكلفة إنشائها وأسعار خدماتها تبدو منقطعة بالكامل عن الخطاب الحكومي حول ترشيد الاستهلاك والتركيز على الأولويات للنهوض بالصناعة السورية، بل هي تعكس انقساماً حادّاً في سوريا بين طبقتَين: الأولى ثرية جدّاً ومستعدّة للاستثمار في الرفاهية واستهلاكها، والثانية مسحوقة تتعلّق بباص النقل الداخلي وقشّة الدعم الحكومي وبضع دقائق من الكهرباء. يقول صناعي سوري، فضّل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الأخبار»، إن «نهوض تلك المشاريع السريع على رغم عدم كوْنها أولوية، مقابل تعثُّر مشاريع إنتاجية حيوية، أو عدم تَشجُّع الصناعيين السوريين المغتربين على العودة إلى الاستثمار في بلادهم على رغم نجاح مشاريعهم في دول الجوار، كان يجب أن يدعو الحكومة إلى البحث عن الأسباب التي تحول دون دخول الاستثمارات النوعية حيّز العمل، علماً أن البيئة القانونية للترخيص لها شهدت تحسّناً كبيراً وتسهيلات جيّدة كان يجب أن تساهم في جذب الصناعيين السوريين من الخارج»، مشدّداً على أنه «ليس بالرفاهية وحدها يحيا المواطن السوري».
تَبرز الحاجة إلى مشاريع حيوية تساهم في عملية التنمية والنهوض الاقتصادي


صناعات يحتاجها الاقتصاد
يعاني الاقتصاد السوري، اليوم، من تَركُّز النشاطات التجارية والإنتاجية في مجالات تسعى إلى الربحية وتسريع دوران رأس المال، مثل إنشاء المطاعم و شركات الخليوي وغيرها من الأنشطة التي تعتمد على الاستيراد، بغضّ النظر عن الاحتياجات الملحّة والأساسية لاقتصاد يعاني الكثير من المشكلات والأزمات وضعفٍ في البنى التحتية. تقول وزيرة الاقتصاد سابقاً، لمياء عاصي، لـ«الأخبار»، إنه «من أجل إنجاز التعافي الاقتصادي، يجب أن يكون الهدف من أيّ مشروع استثماري في سوريا تأمين مستلزمات الإنتاج لصناعات وقطاعات أخرى»، مُبيّنة أن «الصناعات القادرة على إحداث نقلة نوعيّة في الاقتصاد هي التي تساهم مُخرجاتها في صناعات هامّة، كمنتجَات معمل صهر الحديد وإنتاج القضبان الحديدية بأشكال وقياسات مختلفة، إضافة إلى معامل الإسمنت التي تُعتبر ركيزة أساسية لقطاع البناء، وكذلك الأسمدة والأعلاف والجرارات التي تخدم القطاع الزراعي وتُنشّطه، فيما تلعب مخرجات معامل الصناعات الهندسية والكيميائية والنسيجية وغيرها دوراً مهمّاً جدّاً في صناعات يحتاجها بشدّة الاقتصاد السوري».

دور الدولة في توجيه الاستثمار
على رغم عدم كوْنها أولويات، يبدو أن ثمّة تشجيعاً حكومياً لبعض هذه المشاريع، كما هو الحال مع دخول المشغّل الثالث للخليوي السوق السورية، حيث يحظى باهتمام عالي المستوى، بينما يقع على عاتق الحكومة توجيه الاستثمار في اتّجاهات تعود بالنفع على الاقتصاد السوري، بدل أن تُستنزف الأموال في الداخل بإنفاقها على خدمات رفاهية كغداء في مطعم «خمس نجوم» أو هاتف بقيمة ألف دولار. وفي هذا الإطار، تُشدّد عاصي على ضرورة «تدخُّل الدولة القوي من أجل تحديد أولويات الاستثمار ونوع الصناعات والأنشطة اللازمة لإعادة تحريك العجلة الاقتصادية، وتوجيه النشاطات الاقتصادية بالشكل الصحيح»، مضيفة أن «هذا التدخُّل يجب أن يُبنى على تخطيط اقتصادي شامل وإنجاز خرائط لأهمّ الاستثمارات المطلوبة، بحيث تكون الدولة بمثابة الشريك الذي يقدّم التسهيلات والمزايا والمحفّزات وكلّ ما شأنه تيسير عمل المشروع، وبما يجعل المشاريع الاستثمارية الكبيرة ذات دور فاعل وصحيح في تعافي الاقتصاد تدريجياً». وتُبيّن الوزيرة السابقة أنه «يمكن للحكومة أن تكون مشاركة في تقديم الأصول كالأرض والمباني، فيما هناك الكثير من المعامل المتوقّفة منذ سنين طويلة والتي يمكن استثمارها»، متابعة أنه «يمكن كذلك السماح باستيراد الآلات وخطوط الإنتاج، إضافة إلى استخدام المحفّزات والإعفاءات الضريبية لتوجيه الاستثمارات إلى القطاعات والأنشطة الضرورية، وإعطاء هذه المشاريع الأولوية في تأمين المشتقات النفطية ومستلزمات الإنتاج لِمَا بين خمس وسبع سنوات».

مفارقات
في ظلّ الواقع المتردّي الذي يعيشه المواطن السوري العادي، تَبرز الحاجة إلى مشاريع حيوية تساهم في عملية التنمية والنهوض الاقتصادي. وللمفارقة، فقد ودّعت سوريا، قبل أيام، وزير اقتصادها الأسبق، محمد العمادي، والذي كان أحد عرّابي مشروع إنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية في الثمانينيات، وهو صاحب نظرية استيراد الأساسيات (القمح) والابتعاد عن الكماليات، بينما اليوم لا تكتفي البلاد باستيراد الهواتف المحمولة بأحدث الموديلات وبالدولار، بل تستورد عمالة خارجية لمشاريع الرفاهية، تُدفع رواتب أصحابها بالعملات الأجنبية.