الاشتباكات الدموية التي تتكرّر بشكل دائم في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركيّاً، جاءت هذه المرّة بعد أسابيع قليلة من إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نيّة بلاده إنشاء «منطقة آمنة» جديدة في الشمال السوري بعمق 30 كيلومتراً، وضمّها إلى سلسلة المناطق التي سبق للجيش التركي تنفيذ عمليات عسكرية فيها، ومن بينها عفرين، نموذج «المناطق الآمنة». وتقول تركيا، في خطابها الرسمي، إن الغاية من «المنطقة الآمنة» تحقيق الاستقرار الأمني، والحفاظ على وحدة الأراضي، وتشجيع عودة اللاجئين السوريين بشكل طوعي، والبدء بإعادة الإعمار.
الاستقرار الأمني في «غصن الزيتون»
أطلقت تركيا اسم «غصن الزيتون» على عمليّتها العسكرية في عفرين، والتي تسبّبت في تهجير قرابة 200 ألف شخص، بحسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، قبل أن تُحكِم القوات التركية، مدعومة بميليشيات سوريّة، سيطرتها على المدينة الواقعة شمال حلب، في 24 آذار 2018، بعد شهرين من المواجهات العسكرية مع «قوات سوريا الديموقراطية». ووفق التقارير الحقوقية، ومن بينها تلك الصادرة عن منظّمات الأمم المتحدة بين عامَي 2018 و2022، فإنّ «عفرين تشهد حالة من عدم اليقين، ومَن يخرج من منزله لا يعرف ما إذا كان سيعود إليه أم لا»، فيما يذكر تقرير لـ«شبكة نشطاء عفرين» أن 41 مواطناً ومواطنة واجهوا مصير الموت «قتلاً» بطرق مختلفة خلال عام 2021، بينهم 7 نساء و4 أطفال، بينما اختُطف واعتُقل 648 شخصاً، من بينهم 100 امرأة مسنّة. وجاء في تقرير لـ«منظّمة النساء المختطفات في عفرين»، أن 88 امرأة وفتاة اختطفن عام 2020، 51 منهنّ تم تسجيلهنّ في عداد المفقودات منتصف عام 2021، فيما أُفرج عن 17 بعد دفع فدية مالية ضخمة، إضافة إلى خسارة 7 نساء حياتهن قتلاً تحت عناوين «جرائم الشرف».
تسبّبت عملية «غصن الزيتون» في تهجير قرابة 200 ألف شخص


الهندسة الديموغرافية
في بيان صادر عن منظمات المجتمع المدني السوري، منتصف عام 2018، وموجّه إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وقّعت عليه قرابة 35 منظّمة، من بينها منظّمات عاملة في تركيا، دعا الموقّعون إلى وقْف ما سمّوه اصطلاحاً «الهندسة الديموغرافية» في مختلف مناطق سوريا، ومنها عفرين التي كانت حديث الساعة آنذاك، نظراً إلى ما فعلته تركيا في حينه، من تسليم منازل الأهالي إلى عناصر «جيش الإسلام» وعائلاتهم. وفيما تتعدّد الفصائل المشاركة في عمليات «الهندسة الديموغرافية» («العمشات»، «الحمزات»، «جيش الإسلام»، وغيرها)، إلّا أن أبرز الانتهاكات ارتُكبت على أيدي فصيل «أحرار الشرقية» الذي طَرد بالقوّة - مع شركائه المدعومين تركيّاً - عشرات الأهالي من منازلهم التي منحها إلى أهالي العناصر الذين يقاتلون إلى جانبه، على اعتبار أن غالبيتهم قادمة من مناطق أخرى. وهو ما تؤكده تقارير «هيومن رايتس ووتش» بين حزيران 2018 و2022، إضافة إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلّة الصادر عقب اجتياح عفرين، والذي لفت إلى أن المسلّحين المدعومين من تركيا قاموا - بصورة منهجية - بوضع نقوش على المنازل المصادَرة من أصحابها السوريين الأكراد. وبحسب منظّمة «سوريون من أجل الحقيقة والعدالة» التي تتابع ملفّ عفرين، فإن ناحية شيخ الحديد، على سبيل المثال، لم يبقَ فيها سوى 20 في المئة من سكّانها الأصليين، الذين حلّت محلّهم عائلات نازحة من حلب وإدلب وريف دمشق.
ويقول الناشط الحقوقي السوري، فاروق حاج مصطفى، في حديث إلى «الأخبار»، إن الفصائل المدعومة تركيّاً قامت بمصادرة الأملاك المنقولة وغير المنقولة لمئات العائلات، وعملت على تخويف وإرهاب الناس لترك منازلهم، كما أجبرت آخرين بقوّة السلاح على مغادرة عفرين.

سياسة التتريك
في عام 2020، نشر فهيم عيسى، وهو قائد «فرقة السلطان مراد» المدعومة تركياً، تغريدة عبر حسابه في «تويتر»، أعرب فيها عن أمله في أن تصبح سوريا كلّها دولة تتحدّث التركية، وتنضمّ إلى ما سمّاه «المجلس التركي». تنسجم رغبة عيسى مع سلوكيات واضحة تمارَس على الأرض في مختلف مناطق الشمال السوري التي خضعت لعمليات عسكرية تركية، من الباب إلى جرابلس وعفرين وغيرها، من خلال وضع سياسة تتريك واضحة المعالم، اختيرت لتنفيذها مجموعة من الشخصيات الذين يتولّون قيادة الفصائل، أمثال عيسى وأبو عمشة، إضافة إلى أعضاء المجالس المحليّة الذين يُشَكَّلون في تركيا، ويأتمرون لأوامر والي هاطاي، رحمي دوغان. ويتمظهر التتريك من خلال السيطرة على المدارس وفرْض تعليم اللغة التركية، وتوزيع بطاقات شخصية للسكان تحمل العلم التركي، إضافة إلى سيطرة شبكات الكهرباء والبريد والاتصالات التركية على قطاع الطاقة والاتصالات في المنطقة، وصولاً إلى فرْض التعامل بالليرة التركية. كما تتحكّم الفصائل العسكرية المنفّذة للسياسة التركية، بالاقتصاد في مناطق «غصن الزيتون» و«درع الفرات». وبحسب «سوريون من أجل الحقيقة والعدالة»، فإن الفصائل قسمت المنطقة إلى قطاعات نفوذ اقتصادي وسيطرت على التجارة والسوق، إضافة إلى المعابر الداخلية والحدودية.
تختلف المعطيات على الأرض تماماً عن السردية التركية؛ فالسوريون لا يعودون إلى الشمال السوري من تركيا طوعاً، وإنما يتمّ ترحيلهم قسراً في معظم الأحيان، و«المنطقة الآمنة» التي تتحدّث عنها تركيا لا تبدو آمنة إلّا لقادة الفصائل المدعومين من قِبَلها، والذين يرتكبون أفظع الجرائم من دون حساب، وكذلك للمسؤولين الأتراك الذين يزورونها بين الحين والآخر لتفقّد سياسة التتريك عن كثب.