يبدو أن خطط العملية العسكرية التركية الخامسة في سوريا، ماضية بثبات، أقلّه إعلامياً، بهدف إنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومتراً، تُحقَّق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، عشيّة إطلاق عملية "نبع السلام". عمليّةٌ يقول الرئيس التركي إن احترام حساسيّتها، من قِبَل الأطراف الآخرين، سيشكّل مرجعاً لسياسة أنقرة، التي ينتظر "حلف شمال الأطلسي" رضاها، ليضمّ فنلندا والسويد إلى صفوفه. وإن كان الضوء الأخصر الأميركي غير متوفّر إلى الآن لعملية من هذا النوع، لا يزال الموقف الروسي ملتبساً إزاءها، فيما يبدو أن أنقرة مستعدّة لتُغامر بالتفاهمات التي أرستها مع الأطراف الفاعلين في الأزمة السورية
حرّكت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، حول احتمال قيام بلاده بعملية عسكرية في شمال سوريا، «الستاتيكو» القائم هناك، منذ آذار 2020. وكان إردوغان قد أعلن، عقب اجتماع لحكومته الإثنين الماضي، أن تركيا بدأت بإنشاء «منطقة آمنة» بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود الجنوبية (لم يُحدِّد سوريا بالاسم)، على أن تبدأ العمل لسدّ «النواقص» في هذه المنطقة. وقال إن «قوّاتنا المسلّحة واستخباراتنا وقوانا الأمنية، ما إن تنتهي من استعداداتها، حتى ستبدأ، إن شاء الله، هذه العمليات العسكرية، وسنرى مَن يحترم الحساسيات الأمنية لبلدنا، ومَن لا يحترمها، وسنجعل ذلك مرجعاً لسياساتنا المستقبلية». وبالفعل، جاء اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، يوم أمس، لينقل التطوّرات إلى مرحلة جديدة، بإقراره خطّة العملية العسكرية. ومع أن مصادر كردية من داخل عين العرب (كوباني)، لم ترَ بعد أيّ تحرّك على الأرض أو في السماء، حيث لا تزال المروحيات الروسية تقوم بدورياتها المعتادة، إلّا أن المصادر تشير إلى «حالة من الرعب» تسود سكّان المناطق التي يمكن للعملية العسكرية التركية أن تستهدفها، خصوصاً على أبواب حصاد الموسم الزراعي والامتحانات النهائية للعام الدراسي.
العملية العسكرية التركية المحتمَلة، تُعدّ الخامسة بعد أربع عمليات كبيرة، هي: «درع الفرات» (آب 2016) التي شملت مناطق جرابلس والباب ودابق؛ «غصن الزيتون» (كانون الثاني 2018) التي احتلّت بعدها القوات التركية مناطق راجو وجندرس و332 نقطة سكنية بما في ذلك مدينة عفرين؛ «نبع السلام» (تشرين الأول 2019) التي أدّت إلى احتلال رأس العين وتل أبيض وسلوق، ووضع تركيا يدها على جزء من طريق «إم 4» الواقع شرق الفرات؛ و«درع الربيع» (27 شباط 2020)، والتي نتج منها اتفاق بين أنقرة وموسكو قضى بتسيير دوريات تركية - روسية مشتركة من منطقة طرمبة إلى منطقة الحور على امتداد طريق «إم 4». وفيما أثيرت تساؤلات عن المناطق التي تُعتبر، من وجهة النظر التركية، «نواقص» في خريطة «المنطقة الآمنة»، خصّصت صحيفة «تركيا» عنوانها الرئيس، أمس، للهجوم المتوقّع، والذي سيشمل، بحسبها، السيطرة على مناطق عين عيسى، عين العرب، تل رفعت، منبج، مطار مينغ، وسدّ تشرين، وسيشارك فيه 50 ألفاً من الجنود الأتراك، و«الجيش الوطني السوري» الموالي لأنقرة. من جهته، يقول الخبير التركي المعروف في شؤون الإرهاب والأمن، عبدالله آغار، في حوار مع صحيفة «ميللييت»: «تنقصنا عملية عسكرية واحدة بعد. رئيس الجمهورية قال جملةً هي الأدقّ عشيّة عملية نبع السلام: عرض المنطقة 432 كيلومتراً وعمقها 30 كيلومتراً، أي أن الوضع أُسِّس له في حينه. وهذا يعني ضرورة استكمال العملية العسكرية في المناطق التي لم تشملها العملية بين تل أبيض ورأس العين». ويحدِّد آغار هذه المناطق بـ«منبج، عين العرب والقامشلي، وصولاً إلى الحدود العراقية»، معتبراً أن من شأن السيطرة على تلك المناطق أن «تحرِّر المجتمع الكردي بنسبة عالية جداً من حزب العمال الكردستاني. لكنّ هناك أيضاً مجتمعاً كردياً في حيَّي الشيخ مسعود والأشرفية في حلب». ويضيف: «نريد أن نقتلع حزب العمّال الكردستاني الذي يطلق رصاصة على وطننا وعلى جنودنا وعلى أرضنا وعلى جنود الناتو وعلى دولة أطلسية. وبقدر ما نريد ذلك، يجب على دول الناتو أن تريده، لأن حزب العمال الكردستاني يطلق النار على جنود أطلسيين. يجب أن تكون معركتنا واحدة».
ستُبقي روسيا على 6 إلى 7 آلاف جندي في سوريا، على خطّ دمشق - اللاذقية - طرطوس


وفي مقالته حول العملية، يرى مراد يتكين أن سلسلة عمليات «المخلب» التي تقوم بها القوات التركية في شمال العراق، ربّما تمهّد لعملية محتملة في شمال سوريا، وفي العراق توازياً، إذ إن الهدف منها «دفع القوات الكردية إلى خلف مرمى المدفعية التركية، أي أبعد من 30 كيلومتراً». ويتوقّف الكاتب عند توقيت إعلان الهجوم، باعتباره يأتي «بعد ورود أنباء صحافية تركية عن أن روسيا سحبت العديد من جنودها المنتشرين في مناطق مثل إدلب وحماة واللاذقية ومحيط حلب ومنبج وتل رفعت والحسكة وعين العرب، حيث ينشط حزب العمال الكردستاني، لنقلهم إلى أوكرانيا». ويتساءل يتكين: «هل هذا يعني أن روسيا تقول لإردوغان: تعال تقدَّم وأطلق النار، وتعطيه الضوء الأخضر لذلك، أم هذا مجرّد فخّ ليصبح في موقف المواجِه ليس فقط للولايات المتحدة، بل أيضاً لإيران التي يمكن أن تملأ الفراغ مع حزب الله في تلك المناطق؟». ويضيف يتكين أن العملية، إن حصلت، ستشكّل فرصة لتركيا لاختبار الموقف الحقيقي للولايات المتحدة، كما للسويد وفنلندا، تجاه «حزب العمّال الكردستاني». وبحسب الكاتب، فإن روسيا ستُبقي على 6 إلى 7 آلاف جندي في سوريا، على خطّ دمشق - اللاذقية - طرطوس. ويرى أخيراً أن أيّ هجوم عسكري جديد سيحرف الأنظار ولو مؤقّتاً عن الأزمة الاقتصادية الحالية، لكنّه سيضيف عامل توتير مؤثّراً على صيف 2022 الذي سيمرّ ساخناً. من جهته، يرى الجنرال المتقاعد، رئيس دائرة الاستخبارات السابق في رئاسة أركان الجيش، إسماعيل حقي بكين، أن «تركيا يمكن أن تقوم بعملية عسكرية واسعة، ولكنها تغامر بتعريض المناخ الإيجابي الذي نشأ مع الغرب بسبب أوكرانيا للتبدّد، والقيام بعملية كبرى في ظلّ الفيتو التركي على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، سوف يجعل كلّ السهام ترتدّ عليها». مثل هذا الخيار سيثير، وفق الخبير، «استياء روسيا وإيران... الحلّ النهائي في سوريا هو أن تجلس الحكومة التركية مع الحكومة السورية. وبهذه الطريقة، لن نكون بحاجة إلى مثل هذه العمليات، خصوصاً أننا نقول دائماً إننا نعترف بوحدة الأراضي السورية».
ويتحدّث أوميت كيفانتش، في صحيفة «غازيتيه دوار»، بدوره، عن ثلاثة أسباب تدفع إردوغان إلى تسخين الجبهة السورية: «الوضع الصعب عسكرياً واقتصادياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بسبب الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي اضطرّه إلى سحب قوات من سوريا؛ انتزاع بعض المطالب من الولايات المتحدة، في مقابل الإحجام عن استخدام الفيتو ضدّ عضوية السويد وفنلندا في الأطلسي؛ حاجة إردوغان إلى التعبئة الوطنية قبل الانتخابات، أملاً في أن يؤدّي ذلك إلى تعزيز شعبيته وإضعاف المعارضة». لكنّ كيفانتش يلفت إلى أنه «من دون موافقة روسيا، لا يمكن لإردوغان القيام بعملية في اتجاه منبج وتل رفعت». ويرى فهيم طاشتكين، في الصحيفة نفسها، أن الحاجة الأطلسية إلى تركيا لإتمام انضمام السويد وفنلندا إلى «الناتو»، قد لا تثير اعتراض الولايات المتحدة على العملية العسكرية المحتملة. لكنّ عملية كهذه، يقول: «يحتمل أن تثير مخاطر الاشتباك مع الجيش السوري، وروسيا لا يمكنها أن تقف متفرّجة».