استبق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، الزيارة المجدولة للوزير التركي لواشنطن ولقاء نظيره الأميركي أنتوني بلينكن، بعد غد الأربعاء، بتوجيه انتقاد واضح للاستثناءات التي منحتها الإدارة الأميركية لبعض المناطق في سوريا من قانون العقوبات "قيصر"، معتبراً أنها تشكِّل دعماً لـ«الوحدات الكردية» التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب «العمّال الكردستاني». التصريحات التركية الحادّة التي جاءت بعد ساعات من إعلان وزارة الخزانة الأميركية خريطة المناطق المستثناة من العقوبات، حملت رسائل عديدة، في مقدّمها ممارسة أنقرة مزيداً من الضغوط على واشنطن سعياً إلى الحصول على مكاسب اقتصادية أكبر تساعدها في استكمال مشروعها في المناطق الحدودية السورية، وخصوصاً أن الاستثناءات الأميركية جاءت مقيّدة ضمن مناطق محدّدة في ثلاث محافظات سورية (حلب، الحسكة ودير الزور)، واقتصرت على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، التي يقودها حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي، والمناطق التي سيطرت عليها أنقرة بعد طرد مقاتلي «داعش» فقط، ولم تشمل مناطق سيطرة القوات التابعة لتركيا والتي سيطرت عليها بعد طرْد «قسد».وإلى جانب الضغوط هذه، استغلّت أنقرة مساعي انضمام فنلندا والسويد إلى حلف «الناتو»، للإعلان عن رفضها هذه الخطوة بداعي «احتضان الدولتين لإرهابيين من حزب العمال الكردستاني»، تاركةً الباب موارباً أمام تحصيل مكاسب من وراء انضمامهما، وهو ما عبّر عنه بشكل واضح الناطق باسم الرئيس التركي، كبير مستشاريه إبراهيم قالن، الذي قال: «نحن لا نغلق الباب. لكنّنا نثير هذه القضيّة بشكل أساسي من باب الأمن القومي لتركيا».
بدأت «الإدارة الذاتيّة» الإعداد لـ«قانون استثماري» لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الاستثناءات الأميركية


التصريحات التركية الأخيرة، على رغم أنها جاءت مركَّزة بشكل واضح ضدّ الأكراد في سوريا، والدعم الأميركي لهم، تُظهر نظرةً أكثر عمقاً حول السلوك الذي تتبعه أنقرة، إذ إن هدفها التفاوض في ملفّات عدّة، من بينها العقوبات الأميركية المفروضة على تركيا على خلفية صفقة منظومة «S400» الروسية، والتي تسبّبت بإخراجها من مشروع طائرات «F35»، وهو ما لا يزال يدور في فلك المفاوضات التركية - الأميركية، وسط مرونة واضحة أبدتها واشنطن، التي تسعى، من جهتها، إلى زيادة الحصار على روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا. وردّت واشنطن على الانتقادات التركية بشكل غير مباشر، إذ عبّرت وزارة الخارجية الأميركية عن «قلقها البالغ من هجمات عبر الحدود بين تركيا وسوريا استهدفت مناطق مدنية»، وذلك بعد تنفيذ القوات التركية استهدافات طاولت مناطق خاضعة لسيطرة «قسد»، في إشارة مباشرة إلى أن الصمت الأميركي حيال الغارات وعمليات الاغتيال التي تنفّذها تركيا ضدّ مقاتلين أكراد، يدخل أيضاً في خانة التفاوض، وخصوصاً أن الولايات المتحدة لم تأتِ بالاستثناءات الأخيرة على قانون العقوبات بشكل مفاجئ، وإنّما بعد نقاشات طويلة بين الطرفين، تخلّلتها زيارات أجراها مسؤولون أميركيون لأنقرة خلال الأسابيع الماضية. وذكرت تسريبات إعلامية أن تركيا طلبت، خلال هذه اللقاءات، أن يشمل الاستثناء جميع المناطق التي تسيطر عليها، باستثناء إدلب كونها تشكّل حالياً «بؤرة إرهاب»، وهو ما رفضته واشنطن، مكتفيةً بتقديم «دفعة إنعاشية» للمشروع التركي في الشمال السوري، تشمل مناطق تعتبرها تركيا استراتيجية، من بينها منطقة الباب التي تضم مجمّعاً صناعياً كبيراً تشرف أنقرة على بنائه، إضافة إلى إعزاز ومناطق حدودية أخرى في الشمال السوري، تم تتريكها بشكل كامل.
بدورها، بدأت «الإدارة الذاتية» التي تقودها «قسد» الإعداد لـ«قانون استثماري» لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الاستثناءات الأميركية، وخصوصاً أنها شملت قطاعات عديدة، من بينها تسهيلات كبيرة في قطاع النفط، ضمن ضوابط "مطاطة" تسمح باستثمار المناطق النفطية السورية التي تتمركز فيها القوات الأميركية في الشمال الشرقي من سوريا.
وستشكل الملفات السابقة الذكر، محاور رئيسة في النقاشات المعمّقة التي سيخوضها الطرفان الأميركي والتركي خلال الأشهر المقبلة، بدءاً من لقاء جاويش أوغلو - بلينكن، وليس انتهاءً باللقاء المجدول أيضاً بين الرئيسين التركي والأميركي جو بايدن في مدريد، على هامش قمة «الناتو» نهاية الشهر المقبل. ويجيء ذلك وسط مساعي كلا الطرفين إلى تحقيق أكبر مكاسب ممكنة لمشاريعهما في سوريا، سواء المشروع الأميركي الداعم لتشكيل كانتون كردي مستقلّ سياسياً وعسكرياً، وضمان استمرار حالة التوتّر في سوريا، أو المشروع التركي الذي يهدف إلى تشكيل سياج بشري في المناطق الحدودية السورية مع تركيا تضمن إبعاد الأكراد عن الحدود التركية، وتصدير اللاجئين السوريين الذين يتصدّرون الصراعات الانتخابية في تركيا، إضافة إلى ضمان استمرار تحكّم هذه الأخيرة بالشمال السوري مستقبلاً.