دمشق | لم تَقُم الوحدة بين سوريا ومصر، في خمسينيات القرن الماضي، إلّا بشرط «حلّ الأحزاب»، والذي أسفر عن قتْل الحياة السياسية في البلاد، قبل أن ينهار المشروع عام 1961، ويبدأ بعد عامين حُكم حزب «البعث»، الذي أسّس عام 1970 «جبهة وطنية تقدّمية» بقيادته، ضمّت مجموعة أحزاب مشابهة له، ما ساهم في تكرار السيناريو الذي رافق «الوحدة»، ولو بصورة مختلفة نسبياً، وهو وضع استمرّ حتى عام 2011، حيث كانت نقطة التحوّل. مع اندلاع الأزمة قبل 11 سنة، ورفْع متظاهرين شعارات مناهضة للحزب الحاكم، واستنكار النُخب غياب الحياة السياسية، أصدرت السلطات قانوناً سمحت بموجبه بترخيص الأحزاب بعد منْع دام نصف قرن تقريباً. ويقول قيادي حزبي، فضّل عدم الكشف عن اسمه، لـ«الأخبار»، إنهم كانوا يأملون من هذا القانون «لجوء الناس إلى العمل السياسي، بدل النزول إلى الشارع للاحتجاج».إثر تلك الخطوة، اندفعت مجموعة من السياسيين إلى تشكيل «حزب التضامن»، الذي يُعدّ أوّل الأحزاب المرخّصة رسمياً بعد عام 2011. ويقول مؤسّس الحزب، محمد أبو القاسم، لـ«الأخبار»: «كُنّا متحمّسين جدّاً لتحريك الركود في العمل السياسي في سوريا، لكن غياب ثقافة السياسة الحزبية في البلاد، والتصحّر السياسي، جعلا الأمر صعباً جداً، فلم يكن من السهل إقناع الناس بخيار العمل الحزبي بعد أن اعتادوا مفهوم الحزب الواحد، كما أن تطوّر الصراع وانعكاساته العسكرية، زادا من تعقيد الواقع». وتتالى بعد ذلك تأسيس الأحزاب في البلاد، حتى بلغ عددها في عام 2012 حوالىي 10، أضيفت إليها أحزاب «الجبهة الوطنية التقدّمية»، التي كان لافتاً أن جميعها حصلت على ترخيص جديد في عام 2013، بما فيها «حزب البعث»، الذي خسر مع إقرار الدستور الجديد عام 2012، امتيازه الدستوري السابق بكونه «الحزب القائد للدولة والمجتمع»، لكنه على أرض الواقع لم يخسر ميزاته وتفوّقه على بقيّة الأحزاب.

عامان من العسل
في العامَين الأوّلَين من الأحداث في سوريا، مُنحت هذه الأحزاب هوامش واسعة وتشجيعاً حكومياً كبيراً، وكان صوتها مسموعاً لدى السلطة، وتحديداً لدى الحزب الحاكم الذي قاد حوارات سياسية للخروج من الأزمة، أشرك فيها الأحزاب الجديدة التي قدّمت أوراقاً ورؤى وخطوات عمل حول المستقبل، وبعضها تمّ تكليفه بإجراء حوارات مناطقية. إلّا أن «شهر العسل» هذا سرعان ما انتهى مع تغيير القيادة القطرية لحزب «البعث» عام 2013، وتشكيل قيادة جديدة تراجَع في ظلّها دور الأحزاب، وغابت الحوارات إلى حدّ بعيد، بحسب أبو القاسم. على أن تراجُع الدور السياسي على المستوى الأوسع، لم يمنع منْح الأحزاب الجديدة هامشاً للعب دور على صعيد المصالحات الوطنية، خصوصاً تلك التي لدى قياداتها علاقات عشائرية في حمص، حيث أسهم بعضها في إبرام تسويات محلّية بالتنسيق مع أجهزة الأمن المعنيّة.
عجزت الأحزاب الجديدة عن تشكيل كتلة في مجلس الشعب ومعظمها فشل في الوصول إليه


اعتصامات واحتجاجات
أقامت الأحزاب الجديدة أنشطة سياسية محدودة جداً، منها مؤتمرات سياسية جمعت في ما بينها، ومنها احتجاجات على قرارات حكومية، كان أبرزها الاعتصام أمام مجلس الشعب عام 2016، والذي نظّمه «حزب سوريا الوطن» (تمّ حلّه لاحقاً)، ومعه «حزب الشباب للبناء والتغيير» بقيادة بروين إبراهيم، التي عادت عام 2020 ونظّمت اعتصاماً آخر، جرى توقيفها بسببه لبعض الوقت، قبل أن يُطلق سراحها مع باقي الموقوفين. إلّا أنّ تلك الأحزاب لم تتمكّن من تشكيل قاعدة شعبية، كما لم تنجح في حشد الجماهير لأنشطتها السياسية والاحتجاجية بأعداد كبيرة، واحتاجت إلى موافقات أمنية لتنفيذها. لكن ذلك لم يمنع بعضها من رفع الصوت بشكل فردي، كما في حالة الثُلاثي مجد نيازي، ومحمد أبو القاسم، وبروين ابراهيم، الذين لطالما فتحوا النار عبر وسائل التواصل الاجتماعي على «حزب البعث» الحاكم، وما وصفوه بتجاوزاته الدستورية وتدخّلاته في الحياة السياسية، وصولاً إلى انتقادهم كوْن رئيس «لجنة شؤون الأحزاب» بعثياً، وهو ما يعتبرونه تمييزاً لهذا الحزب، ووصاية له على الأحزاب الأخرى.

أحزاب من دون مقاعد
خلال 11 عاماً، عجزت الأحزاب الجديدة عن تشكيل كتلة في مجلس الشعب، بل إن معظمها لم يستطع الوصول إليه؛ إذ خسرت بروين إبراهيم الانتخابات مرّتين، واشتكت فيهما ضدّ «البعث»، واتّهمته بانتهاك نزاهة الانتخابات وصدقيّتها. ومن جهته، طالب أبو القاسم بتغيير آلية الانتخابات البرلمانية، وتحريرها من «إشراف حزب منافس، بحيث لا يكون رئيس مركز الانتخابات ومراقبها وعنصر الشرطة على الباب من حزب البعث»، معتبراً أن هذا «سيعزّز من ثقة الناس بالعملية السياسية وسيحفّزهم على المشاركة لصناعة مستقبلهم فعلاً بإرادتهم». لكن اللافت أن مرشّحي هذه الأحزاب، بمعظمهم، يشاركون في الانتخابات كمستقلّين، وقد نجح اثنان منهم فقط في آخر جولة منها، حتى أن أحد النوّاب، وهو قيادي في حزب مرخّص حديثاً، لدى سؤاله من قِبَل «الأخبار» حول إذا كان يمثّل حزبه في البرلمان، أجاب بأنه «مستقلّ»، بينما تمّ رسمياً تسجيل نائب عن حزبه في مجلس الشعب، بما يشكّل نسبة 0.54% من مجمل النواب الحزبيين البالغ عددهم 186، أي أن هذه الأحزاب التي بات عمرها عشر سنوات، وعددها قرابة 15، غير قادرة على تشكيل نصاب برلماني كافٍ لاستجواب وزير.
وفي المقابل، يردّ أبو القاسم على تلك الانتقادات بالقول: «كيف سأبني قاعدة شعبية إذا كان العمل السياسي مقيّداً وتمييزياً؟ إذا أردنا تنفيذ نشاط سياسي في الفضاء العام، نحتاج موافقة أمنية، وإذا أردنا تنفيذ عمل إنساني في مدرسة، يُرفض إعطاؤنا كأحزاب مرخّصة حديثاً موافقة، بينما يُسمح لغيرنا بتشكيل منظّمات في المدارس». ويضيف أنه «يبدو أن المطلوب من هذه الأحزاب ممارسة السياسة في بيتها، وليس في الشارع، ولا الأماكن العامة، وهذا الواقع يجب أن يتغيّر». بالنتيجة، مضى على عودة الحياة السياسية في سوريا، على الورق، 11 عاماً، لكن لا يبدو أن تلك المدّة كانت كافية لعودة السياسة إلى الفضاء العام بشكلها التنافسي، حيث بقيت البلاد محكومة بأغلبية «جبهة وطنية تقدّمية»، تسيطر على مجلس الشعب والحكومة، في مقابل أحزاب وليدة لم تستطع إحداث خرق أو أثر في المسار العام للبلاد.