دمشق | بعد ثلاثة أيام فقط من اغتيال القوات الأميركية، زعيم تنظيم "داعش" أبو إبراهيم القرشي، الذي كان يختبئ في منطقة أطمة السورية الحدودية مع تركيا (ريف إدلب)، ضمن منطقة تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، ظَهر زعيم "الهيئة"، أبو محمد الجولاني، في حفل تكريمي لعدد من قادة تنظيمه الميدانيين، مُعلِناً بدء مرحلة جديدة. الظهور الجديد للجولاني، والذي تعهّد خلاله بـ"عودة الأمّة إلى شيء من عزّها وكرامتها وأمجادها"، وفق تعبيره، جاء ليعزّز الصورة التي يريد تصديرها، عبر إطلالاته المتكرّرة أخيراً، تارةً لافتتاح مشروع طُرُقي، وأخرى لتقديم مساعدات إنسانية لسكّان المخيمات، وثالثة أمام مقاتلين وقادة في تنظيمه، الأمر الذي من شأنه، بحسب ما يعتقد، ترسيخ حضوره في مختلف مفاصل الحياة في مناطق سيطرة جماعته، ليَظهر بمظهر "القائد المتمكّن"، الذي يُمكن للقوى الإقليمية والدولية الاعتماد عليه والتعاون معه. كذلك، يأتي هذا الظهور بعد قيام تركيا بتنفيذ ثلاث دورات تدريبية لمقاتلين في مناطق سيطرة الجولاني في إدلب، آخرها واحدة لأكثر من ألف عنصر، جرى تدريبهم على استخدام مضادّات الدروع، وبعض أسلحة المشاة، في حين تمّ نقل نحو مئتين منهم إلى تركيا لاستكمال التدريبات، وفق ما أكّدت مصادر ميدانية.ويلاحَظ اهتمام الجولاني حديثاً بعمليات تنظيم المقاتلين الذين يقودهم، وتقسيمهم وفق هرم عسكري يشابه القوات النظامية، بالإضافة إلى استحداث عشرات نقاط التجنيد في مناطق مختلفة، امتداداً إلى مساحة سيطرة الفصائل التابعة لتركيا شمال حلب، وصولاً إلى شمال شرقي سوريا (المناطق التي تسيطر عليها أنقرة وتسمّيها: درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام...). وبحسب مصادر ميدانية تحدّثت إلى "الأخبار"، فقد سُجّل ارتفاع في عمليات انشقاق مقاتلين من الفصائل المقاتِلة تحت إمرة أنقرة، وانضمامها إلى قوّات الجولاني لأسباب عديدة، أبرزها الرواتب الكبيرة نسبياً التي تقدّمها "تحرير الشام" مقارنةً برواتب تلك الفصائل، بالإضافة إلى دقّة مواعيد دفعها، في وقت تعاني فيه الفصائل المذكورة من أزمات مالية متلاحقة يتمّ بسببها تأخير الصرْف بضعة أشهر. وبينما تُراوح معاشات المقاتلين في مناطق الجماعات المدعومة تركياً، بين 28 و50 دولاراً أميركياً (تُدفع بالليرة التركية وتتأثّر بأسعار الصرف)، يقدّم الجولاني رواتب تُراوح بين 150 و250 دولاراً أميركياً (تُدفع بالدولار)، فضلاً عن مساعدات غذائية دورية يحصل عليها المقاتلون، وتسهيلات للحصول على منازل سكنية لعائلاتهم بأجور مخفّضة، وهي المنازل التي نزح سكّانها سابقاً، أو تمّ تهجيرهم، وسكن بعضَها "جهاديون" من فصائل عدّة، قبل أن تعمل "تحرير الشام" على حلّ جماعاتهم، والاستيلاء على البيوت التي كانت تؤويهم. وبالإضافة إلى ذلك، يحظى مقاتلو "تحرير الشام" بسطوة وحصانة في مناطق عملهم، تُبعدانهم عن حالة الاقتتال الدائرة في مناطق سيطرة الفصائل، الأمر الذي ساهم في انضمام مئات المقاتلين إلى "الهيئة"، ليتمّ إخضاع معظمهم لـ"دورات تأهيلية" مدّة كلّ منها حوالى الشهر، قبل أن يجري فرزهم إلى مجموعات للتدريب الميداني تباعاً.
سُجّل ارتفاع في عمليات انشقاق مقاتلين من الفصائل المقاتِلة تحت إمرة أنقرة، وانضمامها إلى قوّات الجولاني


وبينما حاول الجولاني نفْي التهم التي طاولته بوجود تنسيق بينه وبين القوات الأميركية التي نفّذت عملية اغتيال القرشي، خصوصاً أن المكان الذي كان يعيش فيه زعيم "داعش" يبعد أقل من 100 متر عن أحد مقرّات زعيم "تحرير الشام" الأمنية، أكدت مصادر جهادية عدّة أن الجولاني أوْعز إلى مقاتليه قبل تنفيذ الهجوم الأميركي بنحو نصف ساعة، بعدم محاولة اعتراض أو استهداف أيّ طائرات أو مروحيات خلال تلك الفترة، مبلِغاً إيّاهم بأن "الطائرات تابعة لقوى حليفة"، وفق المصادر. وحلّقت المروحيات الأميركية التي نفّذت عملية الإنزال في أطمة على علوّ منخفض، وفق ما أظهرت تسجيلات عدّة، بينها مقاطع صَوّرها مقاتلون تابعون لـ"الهيئة"، وقامت بمحاصرة منزل القرشي لأكثر من ساعتين، تخلّلتهما مواجهة مسلّحة، وعمليات قصف للمنزل، من دون أن يقترب أو يتدخّل أيّ عنصر من "تحرير الشام"، التي انتظرت يومَين تاليَين، قبل أن تُصدر بياناً مقتضباً خجولاً حول العملية، مُعلِنةً رفضها أيّ نشاط لـ"داعش" في مناطق سيطرتها.
وسبقت العمليةَ الأميركية، عملياتٌ أمنية نفّذها مقاتلون تابعون لـ"الهيئة"، طاولت مقاتلين من فصائل "جهادية" عدّة، أبرزها فصيل "حراس الدين" الذي قام الجولاني بتفكيك معظمه في وقت سابق، كما تمّ توجيه إنذارات إلى "جهاديين" غير سوريين (يُطلَق عليهم لقب المهاجرين المستقلّين) بضرورة إخلاء منازلهم، ودفْعهم للسكن في مناطق ريفية بعيدة، الأمر الذي فسّرته مصادر "جهادية" بأنه إجراءات فرز تمهيداً لعمليات اغتيال لاحقة ستنفّذها قوات التحالف الذي تقوده واشنطن، وهو ما يتوافق مع التعميم الجديد الذي أصدره الجولاني لمقاتليه، والذي ينبههم إلى ضرورة مراجعة "قيادة الهيئة" قبل محاولة اعتراض أيّ طائرة خلال الفترة المقبلة.
وتُعيد سياسة الجولاني الحالية، إلى الأذهان، التصريحات التي كان قد أدلى بها المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، في شهر حزيران من العام الماضي، حول تواصُل الجولاني مع الإدارة الأميركية خلال العامَين الفائتَين، وحرْص واشنطن على عدم المساس بـ"الهيئة" أو تنفيذ استهدافات ضدّها، بالإضافة إلى "إبلاغ أنقرة بذلك"، وفق جيفري، الذي أشار، أيضاً، في تصريحاته المُشار إليها، إلى أن واشنطن تجد "هيئة تحرير الشام الخيار الأقلّ سوءاً من بين الخيارات المتنوّعة، على إدلب"، مشدّداً على أن الولايات المتحدة ترغب بـ"إبقاء الوضع في إدلب على ما هو عليه، بشكل مستدام"، وفق تعبيره. وأمام الظروف المستجدّة، وجد الجولاني الفرصة سانحة لفتْح علاقات متعدّدة، سواءً مع واشنطن التي قدّمت تطمينات له وبادلها بمعلومات استخباراتية ساعدتها في بعض الاغتيالات؛ أو أنقرة التي تجد في "تحرير الشام" حلّاً لأزمة الاقتتال الفصائلي في مناطق سيطرتها، خصوصاً أن الجولاني بات يعتمد على "التمويل الذاتي" لجماعته، عبر تشديد قبضته على مفاصل حياة السكّان، واحتكار العديد من السلع - ومن بينها النفط - التي يستورد معظمها من مناطق سيطرة القوات الأميركية شمال شرقي سوريا. وعلى العكس من ذلك، تتطلّب الفصائل المدعومة تركيّاً تمويلاً مستمراً، ما يعني هدر المزيد من الأموال، الأمر الذي بات يشكّل مصدر إزعاج لأنقرة أخيراً، ويفسّر انخراطها بشكل متزايد في عمليات تدريب مقاتلي "الهيئة"، وتنظيم قواتها، وإفساح المجال أمام الجولاني لاستقطاب عناصر الفصائل، وغضّ الطرف عن محاولته التوسّع وقضم مناطق تلك الجماعات تِباعاً.