منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً، وعبارة «إيصال الدّعم إلى مستحقّيه»، تُمثّل شعاراً ثابتاً في البيانات والخطابات الرّسمية. لكن الحكومات المتعاقبة كافّة دائماً ما كانت تتحاشى ترجمة هذا الشعار عمليّاً، باعتبار الدّعم جزءاً من عقد اجتماعي أُنجز منذ عدّة عقود، مفضّلةً في مقابل ذلك معالجة مشكلة ارتفاع فاتورة السلع والخدمات المدعومة بإجراء زيادات تدريجيّة على أسعارها. بدأت تلك الزيادات بشكل واضح عام 2008، وتحوّلت لاحقاً إلى خطوة معتادة أو متوقّعة سنوياً منذ عام 2013. لكن ما حصل قبل بضعة أيام، هو تسريب وثيقة صادرة عن اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء، تضمّنت تحديداً لحوالى 31 شريحة وُصفت بـ«الميسورة»، سيتمّ استبعادها من دائرة الدعم الحكومي المُقدّم عبر البطاقة الإلكترونية، الأمر الذي أثار موجة انتقادات وردود فعل شعبية غاضبة، عُبّر عنها بأشكال متعدّدة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وحمل بعضها رسائل سياسيّة واجتماعية، للدلالة على خطورة الوضع المعيشي الراهن.وعلى رغم وجود إجماع عام على ضرورة إخراج الشرائح الميسورة من دائرة الدعم الاستهلاكي، والمحافظة على استمرارية الدعم الإنتاجي وزيادته، إلّا أن الخلاف يكمن في تحديد الأولويّات. إذ يرى اقتصاديّون أنّ الأولوية يجب أن تكون لمعالجة جوانب الهدر والفساد الكبيرة، وبناء قاعدة بيانات صحيحة وموضوعية، والوقوف على متوسّط دخل الأسرة وإنفاقها، ثم يتمّ الانتقال إلى المرحلة الأخيرة المتمثّلة في تحديد الشرائح المستحِقّة. وفي المقابل، تُصرّ الحكومة الحالية على تقليص عدد المستفيدين، بغية خفض قيمة العجز في الموازنة، معتمدةً في ذلك على معايير غير موضوعية، بحسب ما يعتقد الخبراء. ويسجّل الباحث الاقتصادي، زكي محشي، في هذا الإطار، نقطتَين أساسيّتَين: الأولى تتعلّق بـ«غياب الشفافية والوضوح بين الحكومة والمواطنين، إذ كان يُفترض أن توضح الحكومة للمواطنين بطريقة علمية ومنهجية طبيعة هذه الإجراءات، هل هي مثلاً إجراءات مؤقّتة تهدف للحدّ من الهدر في الموارد؟ أم هي جزء من استراتيجية محورها اقتصاد السوق الحرّ؟»؛ والثانية تتمثّل في «آليات اختيار الشرائح التي تستحقّ الدعم، وهي غير دقيقة، ونتائجها ستنعكس سلباً، وذلك لعدّة أسباب من أهمّها: غياب قواعد بيانات دقيقة وموضوعية، واستحالة وجود مؤشّرات دخل حقيقيّة نتيجة غياب الثقة بين الحكومة والمواطنين منذ مدّة طويلة»، بالإضافة إلى أن «الاعتماد على المهنة أو الملكية دون الدخل، غير دقيق على الإطلاق». ولعلّ من أبرز الانعكاسات السلبية لما تَقدّم، «تقديم حوافز سلبية للمنتجين وأصحاب الأعمال والمهنيين كي لا يكونوا شفّافين مع الحكومة».

اعتمادات كبيرة
تنطلق الحكومة في مبرّراتها لإعادة هيكلة الدعم، من التكلفة المالية المرتفعة سنوياً، والتي باتت تشكّل تهديداً مباشراً لمالية الدولة وخططها الإنتاجية. إذ تُشير، مثلاً، بيانات مشروع موازنة الدولة للعام 2022، إلى أن اعتمادات بند الدعم الاجتماعي تصل إلى حوالى 5529 مليار ليرة سورية، مشكّلة بذلك ما نسبته 41% من إجمالي الموازنة. وتستحوذ الحصّة المخصّصة لدعم المشتقّات النفطية على الجزء الأكبر من تلك الاعتمادات، حيث بلغت نسبتها حوالى 48.8%، تلتها اعتمادات دعم الدقيق التمويني (43.4%). أمّا دعم الطاقة الكهربائية، والمقدَّر بحوالى 3652 مليار ليرة، فلم يتمّ إدراجه ضمن البند المذكور أعلاه لأسباب تتعلّق بوجود تشابكات مالية كبيرة مع الجهات العامة. وبحسب ما يُشير إليه الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة طرطوس، ذو الفقار عبّود، فإنه «في ظلّ ما تشهده سوريا حالياً من مشکلات اقتصادية، يتمثّل أهمّها في تنامي عجز الموازنة العامة، وحاجة الدولة إلى المزيد من الاستثمارات، فإن قضية دعم الطاقة تُعدُّ واحدة من أهمّ القضايا التي يجب التعامل معها، من خلال خفض مخصّصات هذا الدعم، وتحويلها إلى النشاطات الاقتصادية الأخرى».
تزداد مهمّة المشروع الحكومي تعقيداً بالنظر إلى توقيت طرحه والذي يَعتبره كثيرون غير مناسب


لكن ما يُنفق فعلياً هو أقلّ بنسب متفاوتة من الاعتمادات المرصودة، وفق ما يؤكّده المدير السابق لـ«المكتب المركزي للإحصاء»، شفيق عربش، وذلك لأسباب تتعلّق إمّا بـ«عدم دقّة عمليات التكاليف المحاسبية التي تتّبعها المؤسّسات الحكومية، أو لعدم تمكّن أسر كثيرة من الحصول على مخصّصاتها من المواد والخدمات المدعومة كمازوت التدفئة والمواد التموينية مثلاً، أو لأن جزءاً من ذلك الإنفاق يذهب في سراديب الهدر والفساد». وعلى سبيل المثال، تقدّر وزارة الكهرباء، منذ عدّة سنوات، نسبة الفاقد أثناء عمليات توزيع الطاقة الكهربائية بحوالى 40%، جرّاء أسباب فنّية متعلّقة بِقِدَم خطوط الشبكة وعملية الاستجرار غير المشروع، ومع هذا فإن الهدر يُحسب من ضمن كتلة الدعم، والأمر نفسه ينسحب على الخبز وغيره.

توقيت غير مناسب
تزداد مهمّة المشروع الحكومي تعقيداً بالنظر إلى توقيت طرحه، والذي يَعتبره كثيرون توقيتاً غير مناسب في ضوء الضائقة الاقتصادية والمعيشية. إذ تُظهر المسوح الإحصائية التي أجرتها المؤسّسات الحكومية، كمسح الأمن الغذائي، أن نسبة الأسر الآمنة غذائياً لم تتجاوز بنهاية العام 2020 أكثر من 5.1%. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن المشروع يأتي في أعقاب سلسلة زيادات سعرية أجرتها الحكومة، لا بل إن المُنتظر كان العكس تماماً، أسوةً بما تمّ اتّخاذه من إجراءات في دول العالم. وكما يَذكر محشي، فإن «التضخّم أصاب اقتصاديات أغلب الدول الرأسمالية كنتيجة مباشرة وغير مباشرة لإجراءات الإغلاق التي صاحبت موجات كورونا، حيث شهدت العديد من هذه الدول ارتفاعاً في الأسعار، ممّا استدعى تدخلاً حكومياً مباشراً لدعم الأسر المحتاجة، وضبط إيقاع الاقتصادات. أمّا في سوريا، فإنّنا نشهد العكس: خروج الدولة من لعب دورها الحيوي في الجانب الاقتصادي في أصعب المراحل». ويجزم الباحث الاقتصادي أن الإجراءات الحكومية، إن استمرّت، ستكون لها «آثار تضخّمية على الاقتصاد، إضافة إلى ما ستُحدثه من تشوّهات في الأسعار». وهو ما ينبّه إليه أيضاً عبّود، وتحديداً لناحية إصلاح الدعم المُخصَّص للطاقة؛ «ففي ظلّ تعدّد التشابکات الاقتصادية لهذا القطاع، وتزايد تضرّر الفئات الأکثر فقراً، فإن عملية الإصلاح قد تؤثر على معيشة وجودة الحياة في المجتمع السوري». ومع ذلك، يعتقد عبّود «أن عملية إلغاء دعم الطاقة بشكل تدريجي، وتوجيه مخصّصات هذا الدعم إلى استثمارات تنموية أخرى، والحدّ من تضرّر الفئات الأکثر فقراً، من شأنه أن يُسهم في زيادة معدّلات النمو الاقتصادي وخفض معدّلات التضخم وعجز الموازنة العامة». لكنّ المفارقة أن هذا ما كانت تقوله أيضاً الحكومات السابقة لعمر الأزمة، لتكون النتيجة مزيداً من الفقر، وتراجعاً في العملية الإنتاجية والتنموية.