دمشق | بعد أكثر من عام على حالة «الستاتيكو» التي عاشها الميدان السوري، والتي تخلّلتها بعض الضغوطات والتحرّكات المتفاوتة، بدأت هذه الحالة تتغيّر بشكل تدريجي على مسارات مختلفة وفي مناطق عدّة، سواءً في الشمال الذي تبحث فيه تركيا عن «صفقة»، أو الشرق الذي يمتدّ جنوباً وصولاً إلى منطقة التنف، حيث مناطق نفوذ الولايات المتحدة، والتي استُهدفت أخيراً ردّاً على الخروقات الأميركية المتواصلة، وليس انتهاءً باللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وتمحور حول الملفّ النووي الإيراني بالإضافة إلى الأوضاع في سوريا
محاولة تشريح الوضع السوري الحالي الذي يبدو أنه بدأ يزداد تعقيداً، تُظهر صراعات على نطاقات عدّة بين الدول الفاعلة في الملفّ السوري: روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى التدخّلات الإسرائيلية التي ارتفعت وتيرتها أخيراً. ففي الشمال والشمال الشرقي من سوريا، وجدت تركيا نفسها أمام صراع مزدوج مع كلّ من روسيا التي زادت من ضغوطها عليها لتنفيذ تعهّداتها بفتح طريق «حلب – اللاذقية» (M4) وعزل الفصائل «الإرهابية» المنتشرة في إدلب، وأصرّت على عدم تقديم تنازلات تسمح بتقدّم القوات التركية نحو مناطق تسيطر عليها «قسد» في ريف حلب، والولايات المتحدة الأميركية التي أعلنت بقاء قوّاتها في سوريا، ودعمها لـ«قسد»، الأمر الذي حال دون إطلاق أنقرة عملية عسكرية، ودفعها إلى البحث عن مخرج قد يكون قبولاً عن طريق رفع وتيرة الاستهدافات بالطائرات المسيّرة لبعض قادة الفصائل الكردية، وهو ما ظهر بوضوح خلال الأسبوع الماضي.
وبينما تحاول تركيا تحصيل صفقة ما في الشمال السوري، أو أيّ فرصة للتوغّل في الشمال الشرقي، بدأت سوريا وحلفاؤها تصعيد وتيرة الضغوط على الولايات المتحدة، على مستويات عدّة، سواءً عن طريق الاستهداف بالطائرات المسيّرة، أو حتى عن طريق عرقلة الدوريات العسكرية، كما في منع آليات عسكرية أميركية من المرور عبر مناطق يسيطر عليها الجيش السوري في الحسكة (شمال شرق). وفي وقت تبدي فيه موسكو موقفاً متشدّداً حيال الوجود الأميركي، ومحاولات التوسّع التركية، وتسعى لإخراج القوّتَين من سوريا، يبدو موقفها أكثر حيادية ومرونة تجاه الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية المتكرّرة، والتي تستهدف بشكل أساسي مواقع انتشار قوات «حلفاء سوريا» المدعومة إيرانياً.
بينما تُبدي موسكو تشدّداً حيال الوجود الأميركي يَظهر موقفها أكثر حيادية ومرونة تجاه الاعتداءات الإسرائيلية


وجاء الردّ الإيراني على الموقف الروسي الأخير، دبلوماسياً، عبر السفير الإيراني في دمشق الذي قال في تصريحات إعلامية إن «ما يجمع بلاده مع روسيا هدف مشترك في سوريا، وهذا الهدف هو إلحاق الهزيمة بالإرهاب والوقوف في وجه الإرهابيين ورعاتهم الدوليين»، في إشارة إلى الدور الذي لعبته طهران في حربها ضدّ الفصائل المسلحة في سوريا، نافياً في الوقت ذاته وجود أيّ خلافات مع موسكو حول أجندة العمل الإيرانية في هذا البلد. كما جدّد الدبلوماسي الإيراني رفض بلاده الدور الذي تلعبه تركيا في سوريا، قبل أن يعيد التصويب نحو الولايات المتحدة التي رأى أنها «ستترك المنطقة بشكل كامل». وتأتي التصريحات الإيرانية بعد وقت قصير من استهداف قاعدة التنف الأميركية، واختراق تحصيناتها، حيث تمكّنت طائرات مسيّرة من الوصول إلى أهدافها، ردّاً على العدوان الإسرائيلي الأخير الذي طاول موقع مبيت عسكري لفصائل «غرفة عمليات حلفاء سوريا» في ريف حمص انطلاقاً من قاعدة التنف، ما يمكن اعتباره رسالة ثنائية موجّهة إلى كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل بأن أيّ اعتداءات أخرى ستُواجَه بالردّ.
ولا يمكن اعتبار تصاعد الصراع الدولي في الوقت الحالي حول سوريا، والذي أخذ طابعاً حذراً، حدثاً طارئاً، أو خارجاً عن السياق الذي سارت عليه الأمور طيلة العام الماضي، في ظلّ إصرار كلّ من دمشق وموسكو على إخراج القوات الأميركية والتركية من سوريا، والمحاولات التي تجري لإعادة ترتيب الميدان السوري، خصوصاً بعد أن تمكّنت روسيا خلال العامين الماضيين من التوسّع في مناطق الشمال الشرقي، ورسّخت حضورها، ما يخوّلها لعب دور أكبر في حلحلة قضية الأكراد أيضاً، ويجعل الوجود الأميركي غير مجدٍ. بدورها، تعيد واشنطن التذكير بين وقت وآخر بحضورها في المشهد السوري، عن طريق تنفيذ استهدافات بطائرات مسيّرة لقياديين وعناصر في فصائل «جهادية»، آخرها اغتيال عنصر سابق في «القاعدة» في محافظة الرقة، الأمر الذي يبدو أن الولايات المتحدة تسعى من خلاله إلى تسويق وجودها العسكري على أنه محصور بـ«محاربة الإرهاب».
وأمام هذه المعطيات، تقف الحشود العسكرية التركية حائرة، تترقّب نتائج اللقاء المزمع عقده على هامش قمة العشرين بين الرئيسَين، التركي رجب طيب إردوغان، والأميركي جو بايدن، بعد بضعة أيام، في وقت تنتظر فيه دمشق وموسكو فتح طريق حلب – اللاذقية، سواء بموجب تفاهم سياسي، أو عن طريق عمل عسكري، كما تنتظران أن يقتنع الأكراد بلا جدوى المواجهة مع تركيا وضرورة تسليم بعض المناطق وإعادتها إلى سلطة الحكومة السورية، لتُشكّل هذه التحركات خطوة من سلسلة خطوات من شأنها إعادة سيطرة الحكومة السورية على ما تبقّى من مناطق خارجة من يدها.