يدخل ويخرج صحافيون أجانب وسوريون إلى المنطقة التي تحتل الحدث الميداني الأول في الساحل السوري. يتبادلون الصور التذكارية في ربيعة مع الجنود. لا أحد يهتم لمعرفة كيف كانت هذه القرية يوماً، وليس مهماً ضمن سياق المشهد السياسي رسم طريق الأطفال إلى مدارسهم والموظفين إلى أعمالهم والفلاحين إلى حقولهم في زمن آخر. تكسو ملامح الاطمئنان، اليوم، كل شيء، حتى أشجار المنطقة الجبلية شاهقة في مكانها تشهد على لحظات الفرار الأخير. «الغبليّة»، بحسب اسمها التركي القديم، عادت إذاً إنما لا مجال لأي سبق صحافي أو نصر شخصي، إن كانت البلدة تعود بذاكرتك 12 عاماً إلى الوراء. أيام كانت القرية التركمانية آمنة، يتحرك أهلها بحرية في طرقها الضيقة. تغوص بالذاكرة إلى أوائل المتخرّجين الجدد من مهنة التدريس، عندما كانت الدولة السورية تفرض على مدرّسيها المتخرّجين سنتي خدمة في مدارس الريف، فكانت ربيعة كابوس المدرّسين، باعتبارها القرية الأبعد ضمن ريف اللاذقية، إذ تبعد عن مركز المدينة مسافة 60 كلم إلى الشمال الشرقي، و16 كلم عن الحدود التركية جنوباً. أول المصاعب التي تواجه المدرّسين الجدد في المنطقة تلاميذ لا يجيدون اللغة العربية، ويصرّون كأهاليهم على التعبير باللغة التركية. داخل البلدة الخالية، اليوم، أصبح التلاميذ وأهاليهم مجرد خيالات من الماضي. لا فلّاح يجني ثمار الجوز من أشجار حديقته، ولا امرأة تقف وراء التنور المهترئ منذ أن هجره الجائعون إلى الأراضي المجاورة، بفعل الحرب.
الصغار الذاهبون إلى المدرسة أصبحوا خارج المشهد منذ زمن. بعضهم يعيشون نازحين في مكان قريب من الريف أو مدينة اللاذقية، وآخرون يقيمون وراء الحدود متناسين أرض الذكريات.. مسقط الرأس، غارقين في «نعيم» أبناء العمومة، وشركاء اللغة. على المقعد كتب عبد الله اسمه، وعلى الحائط وقّع جميل، أكثر الأطفال تفوقاً، رسوماً لشخصيات كرتونية. تقابل كتابات طفلي الأمس شعارات كتبها مسلحون على جدران المدرسة ومعظم بيوت القرية. بعض العبارات تتوعد أبناء الطوائف الأُخرى وتعبّر عن هواجس شبّان حملوا السلاح لغايات مختلفة. يبلغ جميل وعبد الله ورفاق دراستهما، اليوم، 20 عاماً.

«دولة الساحل» الثائرة... بلا مواطنين

الكثير من أهالي ربيعة الذين نزحوا إلى أحياء مدينة اللاذقية، هرباً من حرب الجبال الدائرة، حاولوا العودة للاطمئنان إلى حال منازلهم. من حي الصليبة توجّه محمد ملّا إلى مسقط رأسه، بمجرد إعلان المنطقة آمنة. فاجأه حال البيت الذي لم يصب بأي أذى، ولم يفقد من أغراضه إلا القليل. «كان المسلحون يتعاملون مع المكان، وكأنهم باقون إلى الأبد. المدنيون هربوا تباعاً بعدما وضحت صورة الآتي من الأيام. كانوا يؤسسون لدولة الساحل، إنما كانت دولة بلا مواطنين. دولة السلاح والمعارك»، يقول محمد. ويضيف: «الطبيعة الجبلية القاسية تعطي انطباعاً بالقوة لمن يسكن المكان. كانوا يتعاملون مع قوات الجيش على أنهم عدوّ بغيض. وكانوا يظنون أن هذه الجبال تقاتل معهم باعتبارهم أبناءها. وكل من جاء لمساندتهم ظن مثلهم لاعتبارات دينية تتعلق بالفزعة». كلام تؤيده فاطمة، إذ خسرت المرأة المتزوجة في حي الاسكنتوري، عائلتها بالكامل، بعد «نزوح معظم أفرادها إلى الأراضي التركية بمجرد خروج المنطقة عن سيطرة الدولة السورية، وبدء استهداف مسلحيها لحواجز الجيش، إضافة إلى حالة العصيان التي سادت المؤسسات الحكومية». تزور المرأة شقيقها ووالدتها العجوز المقيمة في لبنان، بين الحين والآخر. وبرغم تشتت الشمل وضيق العيش وخسارة الجذور، غير أنها لا تجور كثيراً في الهجوم الكلامي على من حمل السلاح وتمرد في الجبال والغابات في المنطقة، إذ كان «ينقص القرية الكثير من الخدمات التي قصّرت الدولة بتقديمها».

«جمعنا الخوف وفرّقتنا الحرب»

وإن كان أهم ما يميز الطريق إلى ربيعة الأكواع الخطرة بين الجبال الوعرة التي لطالما عانى منها سكان المنطقة، وخصوصاً في الشتاء، فإن أقوى ما يميز القرية المرتفعة طبيعتها البكر. مساحات واسعة من المزارع والغابات الكثيفة المدهشة، التي تعرضت بفعل المعارك لحرائق متكررة، لطالما احتضنت في ذاكرة اللاذقيين الرحلات المدرسية، حيث لم يعلُ حينها سوى صوت شعار «الأمة العربية الواحدة». «كنا واحداً بالفعل»، تقول حوّا، المدرّسة التركمانية المقيمة في المخيم الفلسطيني في اللاذقية. ترى المرأة التي خسرت بيتها الريفي البسيط أن «شيئاً أقوى من الشعوب وإرادتها كان يجمع سكان هذه البلاد». وتحاول معرفته جاهدة إلى أن تعجز وتتمتم: «ربما الخوف. كنا نضطر إلى أن نحب بعضنا بعضا بفعل الخوف. وربما شيء آخر اسميه عدالة الظلم، إذ كنّا جميعنا مظلومين متساوين في ذلك، ومع ذلك حاربنا بعضنا بعضا». وتستدرك: «غير أننا كنا نتحدث بلغتنا دون أي ضغط من أحد. كانت حقوقنا كأقليات عرقية وطائفية مكفولة من الدولة السورية». وتعترف المرأة بأسى أن «الكثير من مواطن النقص في ربيعة أودت بالحال إلى ما آل إليه، ولعلّ أبرزها: «الجهل». تربّي المرأة أطفالها الثلاثة في منزل صغير لا يقي من برد أو حرّ، وتتفاءل بالعودة القريبة إلى منزلها، وأشجار مزرعتها، شارحة حنينها إلى «بيتها الواسع وباب الدار المفتوح للزوار». وتصف مراقبتها طيلة سنوات ما قبل الحرب «للكثير من الحافلات تقلّ طلاباً من مناطق أُخرى متوجهين عبر القرية إلى غابات الفرلّق القريبة». تقول دامعة: «حلّت محل حافلات الرحلات المدرسية باصات مبيت عسكرية استُهدفت في الريف الشمالي، ما أحال المنطقة بأسرها رماداً». وتتابع قولها: «أنا لا أفهم في السياسة كثيراً. إنما أريد العودة إلى منزلي. أحنّ إلى عملي في مدرسة القرية. أشتاق إلى رائحة خبز التنور صباحاً، وزوار القرية وضيوفها الباحثين عن الجمال النادر الذي لم ترعه يد البشر، إلى أن زارته الحرب وقضت على بعض أجزائه. أشتاق الى أن يعود أهالي القرية المنتشرون في مناطق النزوح واللجوء».