في 20 أيلول الماضي، تقدَّم قائد منطقة «درع الفرات» الجنرال حقان أوزتكين إلى جانب قائدَين بارزَين آخرين، هما مصطفى أنيس قوتش وأورخان آق قورت، بطلب إحالتهم على التقاعد، قبل أن ينضمّ إليهم جنرالان آخران، هما: متين إشتورك وإرجان تشوربجي، ليصبح مجموع المستقيلين من مهامّهم خمسة. وعلى رغم مساعي السلطات لثنيهم عن قرارهم، أصرّ هؤلاء على التقاعد، وكان لهم ما أرادوا. ويمكن التوقّف عند توقيت الاستقالة، كونه تزامن مع عمليات تسخين جبهة إدلب، منتصف أيلول، إلّا أنه يمكن أيضاً عزوها، وهذا الأهمّ وفق العديد من التحليلات، إلى غياب سياسة تركية واضحة في سوريا، باستثناء القيام بعملية عسكرية تلوَ أخرى.في الآونة الأخيرة، تكثّفت الاتصالات التركية - الروسية على أعلى مستوياتها، لتتبعها قمّة جمعت الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في سوتشي، نهاية الشهر الماضي، تحت عنوان «ضرورة أن تنفّذ أنقرة التزاماتها بموجب اتفاق الخامس من آذار 2020»: أي أن يُصار إلى سحب المسلّحين، وفتح طريق «M4» بين حلب واللاذقية. مع هذا، انتهت القمّة إلى «لا شيء»، وفق المعلومات المسرّبة. لكن أمراً آخر برز على مسرح التطوّرات، مع إعلان تركيا عزمها على إطلاق عمليّة عسكرية في المناطق الواقعة غرب الفرات (تل رفعت أو منبج)، التي لا تزال تحت سيطرة «قوات حماية الشعب» الكردية و«قوات سوريا الديموقراطية».
ووفق خبراء عسكريين أتراك، فإن لهذه المنطقة أهمية لوجستية بالنسبة إلى لتركيا:
1- تشكِّل تل رفعت ثغرة في التواصل الجغرافي «المريح» بين مناطق إدلب وعفرين ومناطق «درع الفرات».
2- السيطرة على منبج تقطع التواصل الكردي نهائياً بين غرب الفرات وشرقه، فينحصر الأكراد في مناطق الشرق.
3- السيطرة على تل رفعت تعني مزيداً من التأثير والضغط التركيَّين على مدينة حلب من خاصرتها الشمالية.
وفي موازاة الفوائد التي يُتوقَّع جنيها من عمليّة كهذه، تَبرز تعقيدات لوجستية تتمثّل في كون تركيا لا تسيطر على المجال الجوّي المتروك حصراً لعمل الطيران الروسي. وبالتالي، فإن أيّ عملية برّية فقط، سيكون مآلها الفشل، ومزيد من القتلى في صفوف الجنود الأتراك. وهو ما يفتح الباب أمام السؤال عن موقف موسكو من مثل هذه العملية، وما إذا كانت ستوافق عليها وتفتح مجالها الجوّي أمام الطائرات التركية، أم أنها ستعارض. حتى الآن، تفيد المعلومات بأن بوتين عارض، خلال قمّة سوتشي، إقدام تركيا على إطلاق عمليّة من هذا النوع، فيما تُواصل الأخيرة استعداداتها، مهدّدة باقتراب موعد الهجوم، حتى إن طائراتها المسيّرة ألقت منشورات فوق تل رفعت تدعو فيها الأهالي إلى مغادرتها.
يَعتقد إردوغان أن عملية عسكرية تركية في تل رفعت أو منبج، أو حتى عين عيسى، ستعيد له شعبية تذوب تدريجياً


وإذا كانت موسكو ومعها دمشق تحمّلان أنقرة مسؤولية عدم تنفيذ اتفاق 5 آذار 2020، فإن تركيا تعتبر أيضاً أن روسيا لم تنفّذ التزاماتها بموجب اتفاق الـ22 من تشرين الأوّل 2019، الموقّع في سوتشي بين إردوغان وبوتين، حول عملية «نبع السلام»، والذي ينصّ في بنده السادس على انسحاب المقاتلين الأكراد من نطاق تل رفعت ومنبج وغرب الفرات. ومن هنا، تعتبر تركيا أن أيّ عملية عسكرية ضدّ الأكراد تحظى بمشروعية، استناداً إلى الاتفاق المذكور. لكن، لماذا تسخين جبهة تل رفعت ومنبج الآن؟ هل، كما يقول البعض، لأن الأكراد يستفزّون الأتراك عبر إطلاق صواريخ على دورياتهم، ويستدرجونهم بالتالي ليحتلّوا تل رفعت ومنبج على اعتبار أن من شأن ذلك أن يقلِّل من اهتمامهم بمناطق الحسكة ودير الزور ومناطق شرق الفرات؟ يدرك الأكراد أن الجيش التركي، وفي حال احتلاله تل رفعت ومنبج، لن يتوقّف عند هذا الحدّ، بل سيبدأ، كما تشير المعطيات، عمليات جديدة في شرق الفرات حتى «تنظيف» المنطقة من آخر مقاتل كردي. وعليه، فإن العمليّة الخامسة، بعد «درع الفرات» وعفرين و«نبع السلام» وإدلب، لن تكون - في حال حصولها - الأخيرة، وهي تنطوي على عدّة أهداف من بينها:
1- المقايضة على فتح طريق «M4»، بحيث لا يبدو انسحاب تركيا منه بمثابة هزيمة، خصوصاً أن إردوغان سيكسب منطقة جديدة تعتبر بمثابة إنجاز له.
2- حاجة إردوغان الماسّة إلى تحقيق إنجاز من أيّ نوع كان، وقد استسهلت تركيا الإنجازات العسكرية على ما عداها.
3- تحقيق الهدف التاريخي للعثمانيين الجدد القاضي بضمّ مناطق شمال سوريا، وتل رفعت ومنبج جزء منها، إلى تركيا، وفقاً لحدود «الميثاق الملّي» لعام 1920.
يتلقّى الاقتصاد التركي ضربات موجعة من حين إلى آخر، وآخرها التراجع الكبير في قيمة الليرة. هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية، تكاد استطلاعات الرأي المختلفة تُجمِع على تراجع كبير في شعبية حزب «العدالة والتنمية». وكمجرّد نموذج من هذه الاستطلاعات، واحد أجرته شركة «متروبول»، وجاء مفاجئاً لجهة تراجع أصوات الحزب الحاكم إلى 28.9%، بفارق ضئيل جداً عن «حزب الشعب الجمهوري» الذي نال 28.7%، وسط تراجع كبير في شعبية حزب «الحركة القومية»، حليف «العدالة والتنمية» الذي نال 6.6%، فيما حصل «الحزب الجيّد»، حليف «الشعب الجمهوري»، على 13.5%، و«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي على 10.6%، أي أن تحالف السلطة سينال 35.5%، في مقابل 42.4% لحزبَي المعارضة، ليبقى الحزب الكردي بيضّة القبان: إذا قرَّر التصويت لمرشّح المعارضة يصبح سقوط إردوغان حتمياً، أمّا إذا قرَّر البقاء على الحياد أو التصويت لمرشّح خاص به، فتكون الأمور مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
لذلك، يَعتقد إردوغان أن عملية عسكرية تركية في تل رفعت أو منبج، أو حتى عين عيسى، ستعيد له شعبية تذوب تدريجياً، وستَظهر للرأي العام على أنها انتصار عسكري. لكن يبقى عليه تحديد المكان الذي ستنطلق منه العملية، إذ إن أنقرة تولي أهمية خاصة لتل رفعت، كون احتلالها سيربط المناطق المحيطة بها بعضها ببعض، ويأتي ثانياً خيار منبج، وأخيراً عين عيسى. أمّا تحديد المنطقة - الأولوية، فمرتبط بحسابات الموقف الروسي، وأين يمكن موسكو أن تعطي حليفتها التركية من دون أن تغضب حليفتها السورية؛ إذ إن من مصلحة روسيا إعادة انتخاب إردوغان، فيما تراقب بدقّة الوضع الداخلي التركي كما السوري، ويهمّها أن لا تترك أيّ عملية عسكرية تركية أثراً سلبياً، إن في الداخل التركي أو في الداخل السوري.