في 28 كانون الأول عام 1895، شهدت باريس أول جلسة عرض سينمائي في التاريخ، بثّ فيها الأخوان أوغست ولويس لوميير عشرة أفلام قصيرة جداً، أطولها مدته 47 ثانية.كان عنوان الفيلم الأطول «الخروج من المصنع»، ويُظهر عمال مصنع «لوميير» لإنتاج لوحات التصوير الفوتوغرافي يغادرون مكان عملهم، بثياب لا تمتّ بصلة الى لباس العمل، ليتبيّن أن التصوير تمّ في عطلة يوم الأحد، وبتخطيط مسبق كما هو التحضير لأيّ فيلم، ارتدى العمال والعاملات أكثر أزيائهم أناقة، بما فيها القبعات المزركشة، ليصبح المشهد، على بساطته، خالداً في الأذهان، ولتوصف تلك الليلة بالأهم في تاريخ السينما.
ظلّ «التأنّق من أجل ارتياد السينما» دارجاً لعقود بعد ذلك، عندما كان الذهاب إليها العنوان الأرقى للترفيه، سواء في الدول التي تصنع الأفلام أو في البلدان البعيدة عن هذه الصناعة، والتي اعتاد سكانها استقبال الفيلم بعد شهرين أو أكثر من إصداره عالمياً، ذلك قبل أن يتم تقييد استيراد الأفلام في هذه البلدان لمصلحة جهة واحدة «قنّنت» الترفيه السينمائي، ووزعته بشكل «مدروس» على الدور الحكومية التابعة لها، والدور الخاصة التي تناقصت تدريجياً حتى الانعدام.

(نيويورك ــ أوروبا ــ بيروت ــ طرطوس...) كان تتبع هذا المسار الشائع للأفلام يشغل عشاق السينما في مدينة طرطوس منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو شغف استمر طويلاً وأثمر أحد أهم نوادي السينما في سوريا، عندما غزا التلفزيون والفيديو البيوت، وتراجع حضور السينما، وتناقصت دُورها الخاصة حتى هُدمت آخرها في أيلول 2019، ماحية الشاهد المتبقي على الطقس الأجمل في ذاكرة من عاصروه، وعلى سمة مهمة من سمات المدنية، بحسب ما يرى المهندس نبيه نبهان، أحد الأعضاء المؤسسين في النادي السينمائي في طرطوس.
يقول نبهان: «لم يكن ارتياد السينما شغفاً بالقصة الدرامية فحسب، بل نافذة نطل منها على العالم، لنرى الأزياء والأبنية وعلاقات الناس بعضها ببعض ونسمع موسيقاهم. اعتدنا تأمّل البحر بفضول والتساؤل عما يوجد في الجانب الآخر، فكانت السينما تنقلنا الى هناك، وعندما دخلت السياسة والايديولوجيا في حياتنا، بتنا نهتم بالجانب السياسي في الأفلام، وتأثيره على الحركات الفنية، والسينما البديلة غير التجارية، والتطور في السينما الإيطالية، ثم الفرنسية بعد احتجاجات الطلاب والعمال عام 1968. مفاهيم كثيرة وجديدة انتشرت ونقلتها السينما. كانت بالنسبة إلينا روح الحياة والمدنية».

سينما السبع في العام 2008 بعدما نُزع الاسم عن مدخلها



وكما خرج عمال مصنع «لوميير» بأبهى حلّة في فيلمهم الأول، عرفت قاعات السينما في طرطوس روادها في أكثر حالاتهم أناقة، كما لو كانوا على لقاء واقعي مع نجوم الأفلام، وفي العيد، كانت المناسبة تكتسب زخمها من المشوار المرتبط بتناول وجبة (الفلافل غالباً)، ثم التزاحم لدخول الفيلم. يقول نبهان: «عائلات بأكملها كانت تذهب إلى السينما. كان الشبان يكوّنون حاجزاً لتسهيل مرور الفتيات. كان هذا أحد طقوس مواعيد الحب بالنسبة إلى المراهقين خاصة. كان الأشخاص الأكثر ثراء يجلسون في البلكونات، والآخرون في الصالة السفلية».

الخطاط عادل شقرا، من مواليد عام 1954، ممن انغمسوا في الثقافة السينمائية ضمن المدينة منذ الطفولة. ثابر على ارتياد دور السينما والجلوس على الأرض عندما تكون المقاعد «كومبليه» نظراً إلى «سخونة» العرض. يُسأل عن قائمته الأثيرة فلا يعرف من أين يبدأ. تتلاحق على لسانه عناوين أفلامه المفضلة، الإيطالية كـ«ماسح الأحذية»، والهندية كملحمة «من أجل أبنائي» و«أمسية في باريس» و«جنغلي» الذي يذكر اسمه مقروناً بصيحة «ياهوو» تيمّناً بأغنية شامي كابور، وسلسلة أفلام جيمس بوند، العميل السري البريطاني «007»، وأفلام غربية أخرى، وصولاً إلى «الناصر صلاح الدين» الذي يذكره التلاميذ قبل غيرهم، لأنهم شاهدوه في رحلة مدرسية لا تنسى إلى السينما.
يذكر شقرا وسائل الدعاية للأفلام في طرطوس في الخمسينيات والستينيات، عندما كان يتم اختيار رجال ذوي أصوات قوية للمناداة في الشوارع والساحات والإعلان عن أسماء الأفلام ومواعيد العرض في سينما كذا، حاملين اللوحات الخشبية للـ«أفيشات». شقرا الذي احترف التخطيط، استثمر شغفه السينمائي في السبعينيات بكتابة إعلانات الأفلام بخطوط ملونة لافتة شكّلت في وقت ما مظهراً مألوفاً في شوارع المدن السورية. عمل لم يشبع فقط هوايته لكل ما يتعلق بالسينما، بل أمّن له مقعداً مجانياً محترماً في الصالة بوصفه «الأستاذ كاتب الأفيش». يقول: «لم تكن دور السينما منصات لعرض الأفلام فحسب، بل أيضاً مسارح لحفلات سميرة توفيق وفهد بلان وغيرهما من الفنانين ذوي الشعبية حينها. كانت المقاعد تمتلئ بالكامل بجمهور يختلف ــــ وربما يتلاقى جزئياً ــــ مع جمهور مباريات الملاكمة وعرض الأثقال التي كانت تجري على المسرح ذاته في أوقات أخرى».

يحصي شقرا دور السينما في طرطوس بحسرة من يذكر أصدقاء راحلين: «الدنيا» في حي المشبكة، بصالتها تحت الأرض في الخمسينيات، و«الأمير» في ساحة النجمة، ذات التصميم الخشبي الأنيق الشبيه بدار أوبرا مصغرة، بشرفات متدرجة على كامل محيط الدائرة، قبل أن تزال لمصلحة دار الأوقاف، و«النجمة» التي حملت اسم الساحة نفسها، وأول دار تخصص عروضاً للنساء فقط، ثم «السبع» التي اشتهرت بالعرض المتواصل أيام الأعياد، تقابلها في شارع الثورة سينما «العباسية»، أحدث اسم في قائمة الدور المهدمة، وأخيراً، الدار الباقية بحكم الأمر الواقع، سينما «الكندي» التابعة لوزارة الثقافة، بقوائم أفلامها المحددة من المؤسسة العامة للسينما حصراً.


سينما العباسية عام 2008


بدوره، يذكر نبهان دوراً أخرى متواضعة التجهيز، منها في «الرمل» الذي كان حي مخالفات، حيث أقيمت لفترة صالة سينما أرضية بلا مدرجات، وصالة داخل المدينة القديمة في طرطوس، غير متدرجة أيضاً، ما كان يسمى بصالات العرض الأفقي. يقول: «افتتاح دار للسينما كان مشروعاً مربحاً بسبب كثرة الرواد، لكن الأرباح أخذت تتراجع منذ السبعينيات بسبب احتكار المؤسسة العامة للسينما استيراد الأفلام وتوزيعها في وقت متأخر عن تاريخ الإصدار، وإيلائها الأولوية لأفلام أقل جاذبية للجمهور، فضلاً عن بدء غزو التلفزيون للمقاهي ثم البيوت تدريجياً، ولا سيما القنوات اللبنانية. ومع تراجع الاهتمام بالصالات الخاصة، بدت الحاجة ماسة للحفاظ على طقوس المشاهدة السينمائية التقليدية قدر الإمكان، فتأسس النادي السينمائي في طرطوس بداية الثمانينيات كحالة ثقافية تؤكد حضور السينما في حياة السوريين، وكمكان للمشاهدة الجماعية والحوار المعرفي والثقافي».

شهد النادي، المرخص من وزارة الشؤون الاجتماعية، عهده الأفضل في الثمانينيات، واستطاع أن يجمع حوله طيفاً واسعاً من المهتمين المثقفين. كان أعضاؤه يتناوبون على زيارة المؤسسة العامة للسينما والمراكز الثقافية التابعة للسفارات الأجنبية (دول المعسكر الاشتراكي سابقاً) لإحضار الأفلام ومشاهدتها في بيوت بعضهم البعض لعدم توفر مقرّ رغم المطالبات المتكررة، عدا حلقات النقاش التي تعقب المشاهدة وتغنيها، إلى أن بدأت المؤسسة العامة للسينما أوائل التسعينيات تفرض رسوماً على النوادي مقابل كل فيلم، بحسب نبهان. وتزامن ذلك مع انهيار الاتحاد السوفياتي وألمانيا الديموقراطية ودول أوروبا الاشتراكية عموماً، وبالتالي خسارة المصدر الأساسي للأفلام بالنسبة إلى النادي، ما أعقبه فترة ركود تخللتها محاولات جدية في الألفين لإعادة تفعيل النادي، وكانت تتم عرقلتها من جهات أمنية.

مع هدم آخر دار سينما خاصة في طرطوس (العباسية) في أيلول 2019، تفتحت جروح كثيرين من أهالي المدينة على ذكريات كانت الدار آخر شاهد عليها. البعض عبروا عن ذلك على صفحاتهم في «فيس بوك»، مستذكرين بدايات سينما العباسية بتجهيزاتها المتواضعة بالنسبة إلى غيرها، وموقعها الجغرافي بجوار معملي الثلج و«سينالكو» سابقاً في منتصف شارع الثورة الذي كان أحادي الاتجاه، قبل أن تتوسع المدينة ويصبح موقع «العباسية» المكان الأكثر حيوية في طرطوس، في زاوية تطل على ساحة الساعة والحديقة العامة وتوازي السوق التجاري.


موقع سينما العباسية التي هُدمت، الآن (الأخبار)


جاء قرار الهدم متأخراً عشرين عاماً منذ شراء العقار من مالكيه، بحسب رجل الأعمال حسين إبراهيم، بسبب دعاوى قضائية موروثة مرتبطة بالبناء ومشاكل بين مستأجره ومالكيه السابقين أدت إلى توقف السينما فعلياً عن العمل. يضيف إبراهيم: «عملنا طوال السنوات الماضية على حل هذه المشكلات قبل هدم الدار التي تضم 100 كرسي وتشغل مع المحالّ الموزعة على محيطها مساحة 640 متراً مربعاً. ووفقاً للقانون، يمنع هدم أي دار للسينما إلا في حال التخطيط لبناء بديل منها في المكان نفسه لا تقلّ مساحته عن ثلث المساحة الأصلية، لذا، زوّدنا وزارة الثقافة ومجلس المدينة بمخطط أولي لدار سينما بديلة مؤلفة من طابقين أرضي وتحت أرضي، تضم أكثر من 120 كرسياً مزودة بوسائل عرض 3D و4D ومرفقة بمقاهٍ وصالات للأنشطة الثقافية متعددة الاستعمالات، ويعلو الطابقين 18 طابقاً صالحة لاستثمارها كمطاعم ومقاهٍ ومكاتب وحتى فندق».

وككثير من المشاريع المتوقفة جراء الأزمة الاقتصادية في سوريا، والغلاء الآخذ بالتضاعف بالنسبة إلى مواد البناء، لا يزال المكان المهدم على حاله، لا يستوقف أحداً حتى لأخذ صورة تذكارية على الأطلال، بانتظار رخصة نهائية تقود الى إنعاش هذه الزاوية الاستراتيجية ببناء يتضمّن سينما حديثة الطراز.