طوال الفترة الماضية، شهدت منطقة إدلب رمايات متبادلة بين الفصائل المسلّحة والجيش السوري وحلفائه. كما كَثُر، في الآونة الأخيرة، استخدام مسيّرات مفخّخة من صناعة المسلّحين في مهاجمة قواعد الجيش أو القواعد الروسية في حميميم. كان الوضع الميداني يوحي بأن المبادرة إنما هي بيد الأتراك والفصائل، وأن الجيش قليلاً ما يستطيع التحرّك خارج حدود ردّ الفعل. كذلك، ارتبط العمل العسكري بالحراك السياسي؛ إذ دائماً ما سُجّلت عمليات عسكرية تكتيكية قبيل اللقاءات بين المسؤولين الأتراك والروس للتباحث في شؤون منطقة إدلب. مع هذا كلّه، ظلّت المنطقة هادئة بشكل عام، وغابت عنها العمليات الكبيرة، لكن بدا واضحاً أن لا حلول لعقدة إدلب، وأن الأمور تسير في حلقة مفرغة غير معروفة نهايتها، خصوصاً في ظلّ غياب إرادة الحلّ لدى الأطراف كافّة، وتحديداً الجانب التركي، الذي بقي يماطل في ما يخصّ فتح طريق حلب ـــ اللاذقية الدولي «M4». ويدّعي العسكريون الأتراك أن الفصائل المسلّحة لا تتعاون معهم لتطبيق الاتفاق التركي ـــ الروسي، بينما تستمرّ الاجتماعات بين موسكو وأنقرة في شأن «M4»، من دون نتائج جدّية إلى الآن. أيضاً، لا يوحي المشهد على طول خطوط التماس مع المسلحين في أرياف إدلب وحماة واللاذقية وحلب بوجود نية لدى هؤلاء للانسحاب من أيّ من مواقعهم، بل تشهد خطوط الاشتباك أعمال تحصين وتمكين دائمة، توحي بإرادة بقائهم لفترة طويلة مقبلة.في هذا الوقت، كانت القوات التركية تواصل إخلاء نقاط المراقبة المحاصَرة من قِبَل الجيش السوري منذ أشهر عديدة. وبالاتفاق والتنسيق مع الجانب الروسي، أخلى العسكريون الأتراك النقطة التاسعة في مورك في ريف حماة الشمالي، والنقطة العاشرة في شير المغار في ريف حماة الغربي، والنقطة الثامنة في معرحطاط جنوبيّ معرّة النعمان، بالإضافة إلى النقطة السابعة في الصرمان جنوب شرق معرّة النعمان. وفيما نُقل جزء من عتاد النقاط المخلاة إلى مطار تفتناز شمال شرق إدلب، نُقل الجزء الآخر إلى بلدة قوقفين في منطقة جبل الزاوية (حوالى 28 كم إلى الشمال الغربي من مدينة معرّة النعمان)، حيث يتمّ إنشاء قاعدة كبيرة تركية، وتُستقدَم تعزيزات ضخمة إليها، وهي التي تتمتع بإشراف مميز على جبل الزاوية وسهل الغاب. بالإضافة إلى ذلك، يتمّ إنشاء نقاط جديدة في كلّ من صفوهين وكنصفرة في جبل الزاوية، والعنكاوي في ريف حماة الشمالي. وهذه النقاط جميعها تقع على خط التماس مع الجيش السوري، ويهدف الجيش التركي من خلالها إلى خلق واقع جديد أمام المحاور المحتملة لتقدّم الجيش السوري شمالاً، على طريقة النقاط التي وضعها الأتراك في محيط سراقب. ومن شأن النقاط الجديدة أن تعيق تقدّم الجيش، الذي سيضطر إلى الالتفاف عليها تجنّباً للتصادم مع الأتراك، علماً أنه يتمّ تجهيزها لتكون قتالية بامتياز، من خلال رفدها بالدبابات والمدفعية وأسلحة الدفاع الجوي.

روسيا تستعيد المبادرة
قبل أيام، أغارت الطائرات الروسية على معسكر تابع لفصيل «فيلق الشام» المقرّب من أنقرة في كفرتخاريم. وبحسب المصادر العسكرية في المنطقة، فإن «المعسكر الذي تمّ قصفه عبارة عن كتيبة دفاع جوي تابعة للجيش السوري، كان قد تمّ احتلالها من قِبَل المسلحين في 26/10/2015، وفي التاريخ نفسه من كلّ عام، يحتفل المسلّحون بتخريج دورة من المقاتلين من هذا المعسكر»، وتشير المصادر إلى أن هذا يعني أن «الروسي كان يترقّب هذا الموعد، وقد نفّذ العملية عن سبق إصرار وترصّد». ويدور حديث بين القادة العسكريين في الجيش السوري عن أن المسلحين المستهدفين (200 مسلّح) «كان سيتمّ نقلهم بعد تخرّجهم إلى ناغورنو قره باغ للمشاركة في القتال هناك، إلى جانب الجيش الأذربيجاني»، ما ينبئ بأن «ضرب هؤلاء المسلحين هو رسالة روسية شديدة اللهجة والوضوح إلى الجانب التركي، تتعلّق بناغورنو قره باغ أكثر منها بالميدان السوري»، كما تقول المصادر العسكرية، التي تضيف أن الدورة التي كان يتمّ تخريجها «قد سقطت بأكملها بين قتيل وجريح، إضافة إلى عدد من قادة فيلق الشام الذين كانوا يحضرون حفل التخريج».
قبل الضربة الأخيرة، كان الجانب الروسي محرَجاً، وفي موقع ضعف، ويعاني من مماطلة الأتراك


وعلى الرغم من أن الغارة الروسية قد أعادت المبادرة إلى يد موسكو، إلا أنها فتحت الواقع الميداني في المنطقة على عدّة سيناريوات، إذ من المحتمل أن يعمد المسلحون إلى تنفيذ عمليات مكثّفة ضدّ الجيش السوري وحلفائه، و«قد ينكسر وقف إطلاق النار ميدانياً، ومن المحتمل تنفيذ عمليات على كلّ خطوط التماس من ريف حلب إلى أرياف إدلب واللاذقية وحماة»، بحسب المصادر العسكرية، التي تستبعد في المقابل ردّ فعل كبيراً من قِبَل المسلحين عبر عمليات عسكرية واسعة. على أيّ حال، فإن الوضع في الميدان «متطوّر، وتشهد غالبية الجبهات حالات قصف واستهداف من قِبَل المسلحين»، وفق المصادر نفسها، التي تلفت إلى أن الجيش السوري حالياً هو «في موقع الدفاع، وليس الهجوم». وتضيف أن «المشهد قد تعقّد أكثر بعد الضربة الأخيرة، ومن المستبعد جداً أن تشارك القوات الروسية في أيّ دوريات مشتركة مع الجانب التركي، بسبب نقمة الفصائل على الروسي واحتمال تعرّضه للاستهداف»، علماً أنه استُهدف، أول من أمس، رتل عسكري روسي على طريق «M4» قرب سراقب.
قبل الضربة الأخيرة، كان الجانب الروسي محرَجاً، وفي موقع ضعف، ويعاني من مماطلة الأتراك في تطبيق «اتفاق موسكو» الذي ينصّ على فتح طريق «M4». أما بعد الضربة، فقد استعادت موسكو المبادرة، وهي ربّما تكون في صدد تغيير قواعد الاشتباك، واستغلال الميدان السوري لتصفية حساباتها مع أنقرة، بخصوص جبهتَي ليبيا وناغورنو قره باغ. ويوم أمس، أجرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، محادثة هاتفية مع نظيره التركي، رجب طيب إردوغان، ناقشا خلالها الوضع الراهن في المنطقة. وجاء في بيان صدر عن «الكرملين» أن الرئيسين «تناولا في محادثاتهما 3 قضايا أولاها سوريا، وقبل كلّ شيء، الوفاء بالاتفاقات القائمة حول تحقيق الاستقرار في إدلب». وكان إردوغان اعتبر، في كلمة خلال اجتماع الكتلة النيابية لـ«حزب العدالة والتنمية» في أنقرة، أن «استهداف روسيا مركزاً لتأهيل الجيش الوطني السوري في إدلب مؤشر على عدم دعمها للسلام الدائم والاستقرار في المنطقة». موقف يبدو دون المستوى المتوقّع، ما يشي بأن ردّ الفعل التركي لن يخرج عن حدود الاستنكار والتعبير عن الاستياء، وأن أنقرة ربّما تكون قد ابتلعت الهجوم الروسي، ولا تنوي المضيّ في تغيير قواعد الاشتباك.



«التحالف» يستهدف «حرّاس الدين»
تلاحق طائرات مسيّرة تابعة لـ«التحالف الدولي» قياديين من الفصائل المسلحة في إدلب، وخصوصاً «حرّاس الدين». وأعلن الأخير، قبل يومين، مقتل أحد مسؤوليه البارزين وعضو ما يسمّى «مجلس القيادة والشورى» المدعو أبو محمد السوداني، متأثراً بإصابته بعد استهدافه من قِبَل «التحالف الدولي» قرب قرية عرب سعيد في ريف إدلب الغربي قبل 12 يوماً.


قيادة جديدة لـ«أحرار الشام»
تتشكّل قيادة جديدة للفصيل البارز في إدلب، «حركة أحرار الشام»، حيث تمّ، أخيراً، تعيين المدعو حسن صوفان، من قِبَل «المجلس العسكري» في الحركة، بعد عزل سلفه جابر علي باشا. لكن الأمر لم يتمّ بشكل كامل بعد، إذ هنالك محاولات لمنع تطبيق قرار «المجلس العسكري»، وإقصاء صوفان من قِبَل القائد السابق. ويحظى القائد الجديد برضا «هيئة تحرير الشام»، وهو مهندس متخرّج من جامعة اللاذقية، وينحدر من سهل الغاب. وكان صوفان، القيادي السابق في «جبهة النصرة»، أودع سجن صيدنايا، ثمّ خرج خلال تبادل للأسرى قبل سنوات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا