ركود واضح يسيطر على الأسواق السورية بعد ارتفاع مفاجئ وكبير في سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، بنسب غير مسبوقة حتى في أشدّ مراحل الحرب، حيث قفز خلال يوم واحد فقط إلى ألف ليرة، ليعاود الهبوط بسرعة أيضاً. ولهذا الانتقال السريع، هبوطاً ونزولاً، أثره القاتل على المواطن السوري، خصوصاً في ظلّ موجة غلاء جديدة تسبّبت بانحدار قدرة راتبه الشرائية، على رغم زيادة الأجور الأخيرة.يظهر تأثير انخفاض قيمة الليرة السورية مجدّداً، بحدود 25%، بوضوح في الأسواق، وتحديداً في مدينة حلب، «العاصمة الاقتصادية» للبلاد. فالجمود بات يسيطر على حركتها التجارية مع انخفاض عمليات البيع والشراء جرّاء رفع التجّار أسعار السلع بنحو مبالغ فيه، وهو أمر دفع ضريبته المواطن السوري الذي يعيش تأزّماً جديداً بفعل تحكّم التجار ومضاربي العملة بحياته. وتقول الموظفة الأربعينية، نجلاء وصفي، في دردشة مع «الأخبار»، إن «راتبها القليل لم يعد يكفي بضعة أيام حتى مع الزيادة الأخيرة، نتيجة رفع التجار أسعار بضائعهم، فمتطلّبات المعيشة باتت تحتاج إلى قرض كبير وليس إلى مجرد راتب صغير»، مطالبةً الحكومةَ بـ«قمع التجار وضبط الأسعار ومحاسبة كلّ من تسوّل له نفسه مضاعفة أرباحه على حساب المواطنين البسطاء».
من جهته، يحذر الباحث في شؤون حماية المستهلك، أدهم شقير، من أن «رفع الأسعار، معطوفاً على ظاهرة غير صحية هي الدولرة حيث يدفع المستهلك ثمن خدماته على سعر صرف الدولار في السوق السوداء الموازية بينما يقبض أجره بالليرة السورية، علماً أن متوسط راتب الموظف لا يتجاوز 50 - 60 دولاراً ومعيشته تحتاج إلى 500 - 600 دولار، يُنذر بتداعيات خطيرة لا تُحمد عقباها»، مشيراً إلى أن الحكومة «حاولت تصحيح هذا الخلل عبر زيادة الرواتب في محاولة لتحسين الوضع المعيشي وتحريك الركود، لكن هذا الإجراء لم يكن ناجحاً بعد الهجوم على الليرة وإضعاف قيمتها». ويشرح الباحث الاقتصادي ورئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية، عابد فضلية، بدوره، الإجراءات الحكومية بالقول إن «الحكومة حاولت احتواء مشكلة تذبذب سعر الصرف، عبر المسارعة إلى تأمين السلع الأساسية بأسعار مقبولة من خلال مؤسسات التدخل الإيجابي - وإن حصل شحّ في بعض المواد -، وقد ساهم ذلك في تهدئة المواطنين نسبياً، علماً أن الدولة وفّرت 100 سلة غذائية بأسعار مقبولة»، مبشّراً بوجود «إجراءات أخرى مطروحة على الطاولة لدعم المواطن وتحسين مستوى معيشته، ستُتخذ قريباً».

أضرار بالغة في القطاع الصناعي
كان لتبدّل سعر الصرف بشكل حادّ وسريع أثره البالغ على القطاع الصناعي. «الأخبار» التقت عدداً من الصناعيين في حلب، ولمست لديهم تفكيراً جدّياً في إغلاق منشآتهم أو الاكتفاء بتشغيل جزء منها فقط. ويعود ذلك إلى «الخسارة الكبيرة التي يتكبّدونها جرّاء تكاليف الإنتاج المرتفعة، وعدم وجود قنوات للتصريف بفعل إغلاق المنافذ الحدودية وضعف حركة البيع في السوق الداخلية»، حسبما يبيّن رئيس لجنة منطقة الكلاسة الصناعية في حلب، محمد نديم أطرش. ويتفق معه عضو مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، ماهر زيات، الذي يصف تذبذب سعر الصرف المستمر بـ«الخطر على الصناعة، فقد بات الصناعي لا يعرف كيف يعمل، وخاصة أن العديد من المواد الأولية اللازمة للصناعة مستوردة»، لافتاً إلى أن «الليرة لا يحميها إلا اقتصاد قوي عبر وجود إنتاج محلي وليس مستورداً»، معتبراً أن «إجراءات الحكومة لضبط سعر الدولار غير فعّالة، خاصة أنها تفرض قيوداً على حركة العمل والإنتاج والتصدير، بينما يفترض إصدار قرارات جريئة تُنعش الاقتصاد بلا عراقيل».
الإجراءات الحكومية لتثبيت سعر الصرف ليست كافية، لكنها في الاتجاه الصحيح


وعلى رغم الاتهامات المُوجَّهة إلى التجار برفع الأسعار وتحقيق أرباح طائلة على حساب المواطن والاقتصاد المحلي، إلا أن القطاع التجاري كان من أبرز المتضرّرين أيضاً. وفي هذا الإطار، يرى التاجر أحمد قلعجي أن «حال التجارة لا يبشّر بالخير، لدرجة أن بعض التجار باتوا يفكرون بإغلاق أبواب محالّهم التجارية بسبب ضعف قدرة المواطن الشرائية واكتفائه بالأساسيات فقط». وهو ما يذهب إليه أيضاً عضو في مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق - رفض ذكر اسمه - كان أعلن وقف أعماله التجارية، «ليس بسبب تقلّبات سعر الصرف فقط، وإنما بسبب طريقة التعاطي الحكومي مع الشأنين الاقتصادي والتجاري أيضاً»، واصفاً تلك الطريقة بـ«المعرقلة والمعقّدة، بينما يفترض التعامل بمرونة لتخطي الأزمة الراهنة»، معتبراً أن ذلك «أشبه بسياسة تطفيشية للتجار الفعليين». أما بالنسبة إلى القطاع الزراعي، فيشير الزراعي بسام علي إلى أن «تصدير المنتج الزراعي مقبول حالياً، ولم يتأثر كثيراً بتقلّبات الدولار، باستثناء بعض المنتجات المستوردة المرتبط تسعيرها بالدولار».

المعاناة مستمرة؟
لا يبدو أن في الأفق فرصة واضحة لضبط سعر صرف الدولار، في ظلّ اشتداد الحصار الأميركي والدولي، وضعف أدوات الحكومة لمواجهته. لكن الخبير الاقتصادي، عابد فضلية، يُبدي «تفاؤلاً حذراً»، فالمسألة برأيه تحتاج إلى «شوية صبر»، معتبراً أن «الإجراءات الحكومية لتثبيت سعر الصرف ليست كافية، لكنها في الاتجاه الصحيح، وساهمت جزئياً في تهدئة سعر الصرف، عبر تحرّكها لضرب المهرّبين الكبار، والاتجاه نحو ترشيد وعقلنة الاستيراد، وإضعاف تأثير صفحات التواصل الاجتماعي المضاربة على الليرة. كما توجد ملفات عديدة على طاولتها سيكون لها أثرها في ضبط سعر الدولار، كبرنامج إصلاح القطاع الاقتصادي، وملف الاعتماد على بدائل المستوردات، وتشجيع التصدير، فقد أصبحت هذه الملفات منتهية، لكن المسألة تحتاج إلى وقت مع تأمين التمويل اللازم». ويلفت فضلية إلى أن «ضبط سعر الدولار يتطلّب الاعتماد على الموارد الوطنية مادياً وبشرياً، واستعادة الموارد المحلية، واللجوء إلى القطاع الزراعي، والاتجاه نحو التصنيع، وفتح أسواق للتصدير، والإسراع في تدوير عجلة الاستثمار في المشاريع التي تقلّل المستوردات، والاعتماد على بدائل المستوردات، ومكافحة التهرب الضريبي الذي استفحل، وتقليل اقتصاد الظلّ وتوجيهه إلى الاقتصاد النظامي».
على الأمد المتوسط، يُفترض بالدولة، وفقاً للخبير الاقتصادي أدهم شقير، القيام بـ«دورها كتاجر عملاق قادر على الاستيراد لتأمين كلّ ما يلزم المواطنين من السلع، واستخدام التقنيات الحديثة في توزيع السلع، والمحافظة على طاقات ومقدّرات البلد، كالبطاقة الذكية، ومحاربة الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة». أما على الأمد البعيد، فيشدد شقير على «ضرورة وضع هوية للاقتصاد السوري، وتعديل السياسات الضريبية والمالية على نحو يُسهم في عودة رؤوس الأموال المهاجرة، والتركيز على مشاريع زراعية وإنتاجية تخلق فرص عمل متعددة تخدم تحسين الوضع المعيشي، وزيادة الدخل، وتخفيف البطالة وتداعيات الفقر»، بالإضافة إلى «البحث عن موارد لحوامل الطاقة بشكل رخيص، بما يؤدي إلى تخفيض أكلاف الإنتاج الصناعي والزراعي، وبالتالي تحسين القوة الشرائية للعملة، إضافة إلى تحريك أسعار الفائدة، وتخفيف الإجراءات البيروقراطية في المصارف».