«ما في خوف بعد اليوم». هكذا بدأت سوريا «ربيعها» المزعوم قبل نحو تسع سنوات. شعارٌ هدم كثيراً من «الخطوط الحمراء» القائمة في علاقة المواطن مع السلطة منذ سنوات طويلة، وحتى مع العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة في كلّ منطقة، سواء بفعل التظاهر نفسه في منطقة من العالم تعتبره فعلاً محرماً، أم نتيجة الشعارات غير المسبوقة التي كانت تُردَّد، أم جرّاء الأعمال التي رافقت كثيراً من التظاهرات، كاقتحام المؤسسات الحكومية، وتدمير النصب التذكارية، وحرق الأعلام الوطنية، ولاحقاً عبر الانخراط في تنظيمات مسلّحة سعت إلى إسقاط «النظام» بالقوة.تجاوُز عتبة الخوف كان يعني في نظر البعض اقترابهم من تحقيق «إنجاز» متعدّد الجوانب والأبعاد. فالخوف لدى المواطن السوري، وغيره من مواطني دول المنطقة، هو بحسب خبير التنمية البشرية والإدارية، هاني الخوري، «انعكاس لتربية وصائية أبوية تجعل السلطة أو أصحاب القوة يصنعون ضوابط في ذهنية كلّ مواطن، لذلك كان هاجس هذا المواطن دائماً أن يبقى كلامه وتصرفاته ضمن الحدود المقبولة، فهو يؤمن بأن التمادي على السلطة يجعله في دائرة الخطر». ويضيف الخوري، في حديث إلى «الأخبار»، أن «سيكولوجيا المتغيّرات في سياق ما سُمّي بالربيع العربي، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الناس، جعلت من حالات التمرد الشعبي في بعض الدول العربية ونجاحاتها في زمن تعدّدت فيه الهزائم، تمثّل أنموذجاً ملهماً لتحقيق انتصار، لا سيما وأن له أبعاداً عاطفية وثأرية من أيّ سلطة، وكثيراً ما كان ذلك مُموّلاً ومدعوماً من جهات محلية أو خارجية»، بالتحريض السياسي والإعلامي أو بالتمويل المالي.
من جهتها، ترى الكاتبة والسياسية، ميس كريدي، أن «الأفق مفتوح على كلّ شيء، إلا أنه من المؤكد أن استخدام المتظاهرين بداية لشعارات شتى، منها الحديث عن كسر الخوف أو نهاية الخوف، كان محاولة لقطع أيّ علاقة مع الذاكرة السابقة لما عاشته البلاد، والانتقال تالياً إلى مرحلة أداء مطلبي مختلفة، خاصة وأن الجيل الذي تمت مخاطبته هو خارج المشاهدات المباشرة السابقة، وعلاقته بها مجرد علاقة ذاكرة فقط». وتعتبر كريدي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «أحداث الثمانينيات كانت الأرضية التي بُنيت عليها شعارات وكلمات ترنّ في آذان جيل أتى بعد الجيل الذي عايش أحداث الثمانينيات، جيلٌ لم يعاصر تلك المرحلة إلا من خلال الذاكرة وما وصل إليه من أخبار ومعلومات، ولن أدخل في قصة الشعارات وما إذا كانت مدروسة ولها علاقة بالخارج أم لا».
تجاوُز عتبة الخوف كان يعني في نظر البعض اقترابهم من تحقيق «إنجاز» متعدّد الجوانب


لكن، وأياً كانت مبررات رفع شعارات إسقاط الخوف ودوافعها، فإن التطورات التدريجية للأزمة، والتي أدخلت البلاد بعد منتصف عام 2012 في حرب مدمرة، ولّدت أشكالاً جديدة من الخوف لم يَعتَد السوري على معايشتها منذ عقود طويلة، من قبيل خوفه على حياته وحياة عائلته، خوفه من الخطف والاعتقال والتهجير، خوفه من الجوع والمرض، خوفه على ماله وممتلكاته وفرصة عمله، خوفه من الانخراط في دوّامة العنف، خوفه من جاره ومحيطه. وأكثر من ذلك، فإن الخوف بات على الوطن، سلامة أراضيه، وحدته، هويته، ومؤسساته. فـ«الخوف من كلّ شيء بات هاجساً لحظياً للسوري، كما أن الخوف بات أيضاً متشعّباً - من حيث الآفاق والمستقبل - من التطرف، من الاختلاف، من الانتقام، ومن عدم الاستقرار»، وفق ما يقول الخوري.
وهذا ما يذهب إليه أيضاً الصحافي والسياسي المخضرم، غازي سلامة، إذ يرى أن «الأوضاع الناشئة نقلت المخاوف إلى خوف ماثل على مستقبلنا، دولة وشعباً. إذاً، الحرب وتداعياتها أوجدت الخوف بكلّ أسبابه راهناً، وبالمجهول لاحقاً. حيث لم يكن هناك في مرحلة محدّدة أيّ مؤشر على وجود ضوء في نهاية النفق. فالهجرة الواسعة أصبحت طريق نجاة لمستقبل العائلة، بعد أن أصبحت جودة الحياة في مرتبة متدنية». ويضيف سلامة أن «التظاهرات الاحتجاجية التي بدأت منتصف شهر آذار 2011، وحملت مطالب مشروعة باعتراف الجميع، كان فعلها إسقاطاً لجدار الخوف، لكن ما إن ظهرت المجاميع المسلحة، بتمويل قطري وسعودي ورعاية أميركية وأطلسية وتركية، حتى انتقل الوضع إلى الصراع على سوريا، وقد تجسّد ذلك في احتدام الأجندات الإقليمية والدولية، وهذا ما كان كفيلاً بتوليد مخاوف كثيرة وقلق كبير»، يبدأ بالخوف من التقسيم إلى الخوف على الهوية، فالخوف على الثروات والموارد الوطنية وغير ذلك.
يبقى السؤال اليوم: ماذا لو عاد الزمن قليلاً إلى الوراء؟ هل كان هناك من سيعاود الهتاف لإسقاط الخوف؟ أم أن الأمر سيكون مختلفاً، إذ ثمة فرق بين التظاهرات السلمية المطلبية، التي باتت حقاً ينظّمه قانون خاص، وبين استخدام السلاح والعنف و«شرعنة» كلّ ما من شأنه الوصول إلى الهدف؟