دمشق | هجرة جديدة اضطر إليها الشركس السوريون مع اندلاع الأحداث في سوريا، في مناطق قريبة من أماكن تجمعهم، وهم المنتشرون في محافظات سورية عدة. كثيرون منهم فقدوا بيوتهم وأعمالهم، ليجدوا أنفسهم، شأنهم شأن كافة السوريين، أمام خيارين: إما النزوح داخلياً أو السفر إلى الخارج... والخارج هنا هو «أرض الأجداد»؟
ويلفت رئيس الجمعية الشركسية في دمشق عدنان قبرطاي الى أنّ شركس قريتي البريقة وبير عجم في الجولان هُجّروا بالكامل، ولم يبقَ من قرى تلك المحافظة سوى القحطانية، ونحو 100 شخص من أصل آلاف في مرج السلطان الواقعة في ريف دمشق الشرقي. ولم تكن الحال أفضل في قرية خناصر الحلبية، وكذلك في قرى حمص وحماه. وأوضح أنّه لا يوجد إحصاء رسمي لكل من هجّر بسبب انقطاع الاتصال مع البعض. لكن التقديرات تشير الى أنّ ثلاثة أرباع سكان القرى الشركسية هُجّروا، وتوجهت غالبيتهم إلى دمشق حيث توزعوا على بيوت الأقارب والمعارف.
وينفي قبرطاي وجود أيّ شركسي في مراكز الإيواء أو مخيمات اللجوء، مشيراً الى أن الجمعية الشركسية «ترعى حالياً 3275 عائلة تقدم لهم مساعدات غذائية كل 60 يوماً بالتعاون مع الهلال الأحمر، إضافة إلى الفرش ومواد التنظيف والعلاج للمرضى».
مركز الجمعية في دمشق تحوّل خلية نحل تعنى بتقديم الخدمات والدعم، بعدما يستضيف نشاطات ثقافية وفنية. اختفت دروس الرقص الشركسي، بعدما تحوّلت قاعة التدريب مخزناً للفرش والمواد الغذائية والمهجرين.
الأزمة الحالية أحيت لدى بعض الشركس حلم البحث عن الجذور والعودة الى أرض الأجداد. يقول بيبرس، وهو أحد الشركس السوريين، إنّ حلم العودة والتعرف إلى أرض الأجداد «موجود لدينا كشعب، لكنها خطوة لا يقوى الجميع على تنفيذها بسبب ارتباطهم بسوريا منذ أكثر من 150 عاماً». وأوضح أنّ عدداً من الناشطين والأثرياء الشركس سعوا الى تشجيع إخوتهم الموجودين في سوريا على العودة الى الجمهوريات الشركسية التابعة لروسيا، وقدموا تسهيلات، كالدعوات وأماكن الاستقبال، وهي تسهيلات جذبت البعض ممن خسروا أماكن سكنهم أو عملهم نتيجة الأحداث. ويلفت بيبرس الى أن دولة أبخازيا، وهي إحدى الجمهوريات التي حصلت على استقلالها أخيراً، كانت من أكثر البلدان دعماً لشركس سوريا، إذ منحتهم بيوتاً وفرص عمل، إضافة الى منح لتعلم اللغة. واستقبلت هذه الدولة زهاء 300 شركسي أرسلت طائرة الى سوريا لنقلهم، وهي تستعد لإرسال طائرة أخرى. أما جمهورية كاباردينيا _ بلكاريا فقد منحت الوافدين إليها إقامة في فنادق لمدة سنة، ثم مدّدتها لسنة أخرى، ووزعت على بعض العائلات على أساس القرعة. ولفت بيبرس الى أنّ هذه الدول، رغم المساعدات التي تقدّمها، محكومة بـ«كوتا»، إذ تفرض عليها روسيا منح عدد محدود من التأشيرات، وهذا ما يضطر بعض الراغبين في السفر الى الانتظار نحو سنة أحياناً، مستشهداً بتجربته الشخصية. فبعد عام تمكّن من الحصول على دعوة أهّلته للحصول على تأشيرة من السفارة الروسية، لكنه لم يسافر لرغبته بالبقاء في سوريا. ويقول بيبرس إنه، رغم التسهيلات، مصرّ على البقاء في دمشق حتى «آخر نفس».
يرفض قبرطاي وصف حركة السفر هذه بالهجرة الجماعية، مشدداً على أنها «حالات فردية»، ويقول: «العدد التقريبي للشركس في سوريا يتراوح بين 150 ألفاً و200 ألف، ونقدّر عدد من غادروا منذ بداية الأحداث بـ1500 شخص، توجّهت غالبيتهم الى الجمهوريات الشركسية التابعة لروسيا، وهم لا يتجاوزون واحداً في المئة من تعداد الشركس هنا». ويشير الى أنّ باب الهجرة الى هذه الدول «ليس مفتوحاً بالمطلق. فالجمهوريات الشركسية يمكنها استيعاب 500 شخص من جميع الجنسيات كل عام فقط». أما أبخازيا، فهي «جمهورية ناشئة وتحتاج الى السكان، بعدما رحل تسعة أعشار سكانها سابقاً، ويرغب مسؤولوها في استقطاب شركس سوريا الذين ينحدرون منها، والذين يشكلون 3 في المئة من شركس سوريا فقط».
ولا يخفي بيبرس أنّ عدداً ممن سافر الى هذه الجمهوريات يرغب في العودة إلى سوريا، لأنها «دول غير غنية والعمل فيها غير متوافر بكثرة، إضافة الى حاجز اللغة، باعتبار أن اللغة الروسية هي اللغة الرسمية، ما دفع البعض الى صرف النظر عن التوجّه اليها والاستعاضة عنها بالسفر إلى الأردن أو تركيا، نظراً الى وجود نسب عالية من الشركس في هذين البلدين، فيما توجّه آخرون إلى أوروبا.
أحمد، وهو شركسي سوري، سافر منذ نحو عام إلى الأردن مع عدد من معارفه وأصدقائه، تاركاً قريته عين النسر الحمصية، بعدما اضطربت الأوضاع فيها وفي محيطها. ورغم تمكنه من العثور على عمل في الأردن وحصوله على معونات من الجمعية الشركسية في عمان، قرر السفر إلى تركيا، «فالرواتب قليلة في الأردن»، وهو يفضّل الذهاب إلى دولة أوروبية قد تمنحه الجنسية والاستقرار، وتركيا قد تكون بوابته الى ذلك، من دون أن يخفي لهفته للعودة إلى دمشق قائلاً: «إذا انتهى الصراع فسأعود اليوم قبل الغد».
يشدّد أحد النازحين الشركس، في الجمعية الشركسية في حي ركن الدين الدمشقي، على أن الشركس «سوريون بامتياز ويدافعون عن سوريا»، علماً بأن صورة هذه الأقلية بقيت إيجابية لدى كافة الأطراف، ما أبقاهم بعيدين عن ساحة الصراع والتخوين، لكنّ توزعهم الجغرافي الواسع أوقعهم قرب بعض المناطق الساخنة، ما اضطرهم إلى النزوح... وتكرار تجربة أجدادهم.