لا تكتمل فرحة سكان المناطق الشرقية بانتهاء كابوس سيطرة التكفير والإرهاب على مناطقهم؛ إذ إنهم لا يزالون يدفعون ثمن تلك السيطرة، وما رافقها من حرمان من الخدمات الحكومية، الأمر الذي أدى إلى انتشار أمراض وأوبئة في أوساطهم، أبرزها «اللاشمانيا». ففي عام 2015، أكدت عدة تقارير أممية إصابة المئات من عناصر التنظيم بهذا المرض في الرقة والحسكة ودير الزور، لينتشر بعدها المرض ويتوسع ويقترب من التحول إلى «وباء»، لولا الإجراءات الحكومية التي نجحت في تطويقه. ولهذا الداء مسميات عدة، فيسمى بـ«حبة حلب» نظراً الى اكتشافه لأول مرة في حلب منذ مئة عام، أو «حبة السنة» لأنها تحتاج إلى عام لعلاجها. وتتنوّع عوامل ظهوره ما بين تراكم القمامة، وعدم رش المبيدات، ووجود أبنية مهجورة ومهدمة. عوامل أضيفت إليها خلال الحرب، المحروقات المكررة، وانتشار الجثث تحت الأنقاض، وعدم فلح الأراضي وزراعتها. و«اللاشمانيا» مرض جلدي طفيلي المنشأ، ينتقل عبر ذبابة الرمل إلى جسم الإنسان.وتعاني سوريا، منذ مرحلة ما قبل الحرب، انتشار هذا المرض، إلا أن سيطرة الإرهاب أدت إلى تدهور الرعاية الصحية، وبالتالي تضاعف أعداد المصابين، وتشير إحصاءات مركز الأمراض السارية في وزارة الصحة إلى ظهور 58 ألف إصابة باللاشمانيا في عام 2011، منها 11900 إصابة في الحسكة وحدها، قبل أن يرتفع الرقم إلى 150 ألفاً خلال عام 2017، منها أكثر من 55 ألف حالة في شرق البلاد، مع تراجع الرقم العام إلى النصف في عام 2018. وكان للجهود الحكومية الدور المهم في الحدّ من انتشار المرض في مناطق سيطرة الجيش السوري، فيما لا توجد إحصاءات دقيقة عن المرضى في المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد».

دير الزور الأكثر تضرراً
دفعت دير الزور ثمناً كبيراً نتيجة خروج غالبية جغرافيتها عن سيطرة الحكومة السورية، وقد كان سكانها الأكثر تأثراً بهذا المرض، نتيجة انتشار الحراقات، وتدهور النظافة العامة، والغياب التام للمؤسسات الخدمية والطبية. وسجّلت دير الزور في عام 2016 أعلى نسبة للمرض، وكانت مهدّدة بتحوله إلى «وباء»، كما تطورت حالات الإصابة داخل المحافظة إلى مرحلة تآكل في الجلد لدى بعض المصابين. إلا أن استعادة الجيش مساحات واسعة من المحافظة مكّنت الفرق الحكومية من وضع حدّ لانتشاره.
يقول مدير الصحة في دير الزور، بشار الشعيبي، في حديث إلى «الأخبار»، إن «المديرية نجحت في تطويق المرض والحدّ من الإصابات التي وصلت إلى أكثر من 13 ألف إصابة في عام 2016، لتتراجع إلى أقلّ من 3 آلاف فقط»، مؤكداً أن المديرية «تعمل بكادر مؤلف من 60 شخصاً على رفعه إلى 200 لمواجهة المرض عبر المراكز الصحية والفرق الجوالة»، محذراً «الأهالي من اللجوء إلى الطب الشعبي، لما له من أضرار تسهم في تشوّه الجلد، وتفاقم المرض، وتأخر علاجه». ويوضح الشعيبي أن «الإصابات في غالبيتها انتقلت مع السكان العائدين من أماكن نزوحهم في شرق الفرات»، ويلفت إلى أنهم «لم يستطيعوا الوصول إلى الأرياف في منطقة شرق النهر».
وفي منطقة تكتظّ بركام المنازل المنهارة في حي الدرعية، وسط مدينة الرقة، يواصل عناصر فريق «الاستجابة الأولية»، التابع لـ«مجلس الرقة المدني»، البحث عن جثث تحت الأنقاض لرفعها وتسليمها إلى ذويها أو نقلها إلى المقابر. ويؤكد عناصر من الفريق أن قلة الإمكانات أدت إلى تأخر عملهم، وهددت حالة النظافة العامة؛ لكون الجثث تعتبر عاملاً رئيساً في جذب الحشرات، وهو ما أثّر على انتشار اللاشمانيا بشكل كبير. وسجلت مدينة الرقة وحدها خلال عام 2018، وفق إحصاءات غير رسمية، 3 آلاف إصابة، يتم علاجها عن طريق جمعيات أهلية بالتعاون مع المنظمات الدولية.
تعثّر وجود جهة مشرفة واحدة على علاج المرضى ينذر بتكرار المأساة


وفي الضفة الغربية لنهر الفرات، لا يبدو الوضع أفضل بكثير. تصارع الطفلة فاطمة الحيت إصابة ألمّت بها منذ عامين ونصف عام، خلال سيطرة «داعش» على بلدتها السبخة في ريف الرقة الشرقي. وفي ظلّ عجز أهلها عن تأمين علاج لها، لجأوا إلى الطب الشعبي من خلال الاعتماد على «رماد حب الحنطة»، في محاولة لمنع انتشار المرض، قبل أن تباشر بعلاجها منذ عام، وتقترب من الشفاء. وفي هذا السياق، يكشف مدير الصحة في الرقة، جمال العيسى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الإصابات وصلت هذا العام إلى 7569 حالة فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش، تمت معالجة قرابة 4 آلاف حالة منها»، مضيفاً إن «هناك صعوبات في العمل تتمثل في طريق الإمداد الطويل للدواء، وتباعد المساحات الجغرافية للأرياف، وتعثر اتخاذ الإجراءات الوقائية». ويؤكد أن «المديرية تعمل مع الجهات الحكومية الأخرى على الرفع من الإجراءات الوقائية والاستمرار في العلاج لمنع حصول إصابات جديدة»، لافتاً إلى أن «فرقهم لم تتمكن من الوصول الى مناطق سيطرة قسد، لكن هناك حالات تصل من تلك المناطق وتتلقى العلاج في المراكز الصحية الحكومية».
وفي الحسكة، تبدو الحال أفضل مما وصلت إليه الأمور في عام 2015، والذي سجّل أكثر من 20 ألف إصابة، وذلك في ذروة هجمات «داعش» على أرياف المحافظة ومدنها، قبل أن تنجح الجهود الحكومية في معالجة أكثر من 13 ألف إصابة، وانخفاض أعداد المصابين إلى 7700 حالة في عام 2018. ويشير مدير الصحة في الحسكة، محمد رشاد خلف، إلى أن «تغيير الواقع الأمني، ونجاح الفرق الحكومية في الوصول إلى كل المناطق والأرياف، كان له الدور الأكبر في الحدّ من المرض»، مضيفاً إن «توزيع ناموسيات ضد الذباب، ورش المبيدات الحشرية، وتنفيذ حملات توعية استهدفت المناطق الريفية والمخيمات، أدّت دوراً وقائياً في الحدّ من الإصابات الجديدة».

الخطر مستمر!
وعلى رغم نجاح الإجراءات الحكومية في خفض عدد الإصابات، إلا أن تعثر وجود جهة مشرفة واحدة على علاج المرضى، واتخاذ إجراءات وقائية، في ظلّ وجود منطقتين تخضعان لسلطتين مختلفين، قد ينذر بتكرار المأساة، وحصول إصابات جديدة، وخاصة في الأرياف. كما يشكل اقتراب فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة بيئة مناسبة لانتشار الحشرات، وبالتالي تهديد أشخاص جدد، ما يدفع سكان تلك المناطق إلى مطالبة المنظمات الدولية ببذل جهود واتخاذ إجراءات خاصة في مناطق سيطرة «قسد»، والشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل «الجيش الحر»، للسيطرة على المرض ومنع تحوّله إلى وباء خطير.