يجلس أبو أحمد القرفصاء أمام بيته شبه المدمر، وسط أكوام من الأبنية المهدمة في حيّ الحميدية في دير الزور، بعد عودته إليه هرباً من الإيجارات المرتفعة في دمشق. «نعيش ظروفاً صعبة بلا كهرباء ومياه، مع التهديد بوقوع الأبنية المجاورة بأيّ لحظة، لكن ذلك يبقى أرحم من إيجارات تقصم الظهر»، يقول الرجل الخمسيني، واضعاً يده على خدّه.حال حيّ الحميدية في دير الزور يشابه واقع أحياء في حلب وحمص وريف دمشق، ولا اختلاف بينها إلا في حجم الخراب. الكوارث العمرانية التي خلّفتها الحرب تحضر عنصراً مهماً في سباق بعض جهات دولية لرفع تكاليف «إعادة الإعمار» لنيل حصّتها من «الكعكة الدسمة». ولا تبدو الدولة السورية غافلة عن هذا السباق، فهي اتخذت قرارها بالتشارك مع الدول الصديقة، والاعتماد على ذاتها أولاً عبر خطط، مثل مشروع تدوير الأنقاض، لجدواها الاقتصادية مقارنة بالترحيل. وباشرت الحكومة تنفيذ المشروع في عدد من المناطق المدمرة كمدينة حرستا. ويؤكد رئيس مجلس المدينة، عدنان الوزة، البدء في إزالة الأبنية الآيلة إلى السقوط وبعض الأبنية الساقطة وتدوير أنقاضها، بعد تجميع مخلّفاتها في مكبّ، وفرزها (فصل الحديد عن الإسمنت)، وطحنها، مشيراً إلى وجود تعميم إلى الجهات المحتاجة لهذه المواد للاستفادة منها في تعبيد الطرقات والأرصفة وطمر الأنفاق. ويشرح أن ما دُوّر حتى الآن بلغ قرابة 85 ألف متر مكعب من المخلفات، لافتاً إلى أنه خلال عام يمكن الخلاص من مشكلة الأنقاض، خاصة أن «الحكومة أولت حرستا اهتماماً كبيراً».
الحل الفعال والمجدي اقتصادياً في حرستا لا ينفع في حيّ الحميدية الديري مثلاً، إذ يوضح رئيس المكتب الفني في محافظة دير الزور، فادي طعمة، أن «المواد الأولية متوافرة بنوعية جيدة وأسعار مقبولة، فالدير بادية كبيرة وتحتوي على صخر ومقالع... كذلك إن أنقاض دير الزور لا تحوي ألومنيوم أو خشباً أو حديداً، بسبب سرقتها وحرقها من قِبَل المسلحين والمعفشين أيضاً». ويؤكد أنه بدأ الاعتماد على ترحيل الأنقاض واستخدامها في طمر الوديان التي تعوق إنفاذ المخطط التنظيمي، حيث نقل نحو 250 ألف متر مكعب حتى شهر آب من العام الفائت.

عقبات التدوير والترحيل
تُعدّ الأملاك الخاصة أبرز المشاكل التي تعترض تدوير الأنقاض، إذ لا يمكن السلطات اتخاذ قرار بتدوير ما هو ملك لأفراد من دون موافقتهم. ولحلّ هذه الأزمة، وحفاظاً على ملكيات الأهالي، عرضت الحكومة التكفل بمصاريف إزالة أنقاض البيوت المدمرة بموجب تصاريح خطية من مالكيها، وقد تقدم عدد من أهالي حرستا بعدد من تلك التصاريح. أما في دير الزور، فيؤكد رئيس المكتب الفني في المحافظة «عدم الاقتراب إلى المقاسم الخاصة، فالترحيل اقتصر على الأملاك العامة فقط»، مشيراً إلى أن «كلفة ترحيل أنقاض بناء مؤلف من أربع طبقات تصل إلى نحو 6 ملايين ليرة، ولا آلية لفرز ما يجب أن تتحمله الدولة أو المواطن».
تُعدّ الأملاك الخاصة أبرز المشاكل التي تعترض تدوير الأنقاض


وتبدو مهمة تقدير الكلفة الفعلية لتدوير الأنقاض صعبة نسبياً، في ظلّ تفضيل الرسميين عدم ذكر أرقامها، لكن الخبير العقاري الدكتور عمار يوسف، أكد أن ذلك يستلزم تحديد عدد تقريبي للمساكن المدمرة وملحقاتها، وأهمها المدارس والدوائر الرسمية ومباني القطاع الخاص من تجارية وصناعية وجسور وطرقات وباقي المنشآت. ويشرح أن آلية التقدير توجب «تحويل كافة أشكال الدمار إلى وحدات بيتونية، فيمكن المدرسة وحسب المساحة والتسليح أن تمثل قرابة 200 وحدة مكافئة، مساحة الواحدة منها 120 متراً مربعاً، وضمن هذه المعادلة يصل حجم الدمار في سوريا إلى ستة ملايين وخمسمئة ألف وحدة بيتونية مكافئة، وبناءً عليه تُقدَّر تكاليف ترحيل الأنقاض وإزالتها، بافتراض أن مكان الترحيل لا يبعد عن مكان إزالة الدمار أكثر من 25 كيلومتراً، بنحو 546 مليار ليرة (قرابة 1.092 مليون دولار)».
وفي ما يخص تدوير الأنقاض، يؤكد الخبير العقاري أن كل وحدة بيتونية بمساحة 120م2 يمكن أن تنتج ما يعادل وسطياً ثلاثة أطنان حديد، بالإمكان إعادة تصنيعه واستعماله في إعادة البناء، الأمر الذي ينتج منه ما يقارب 19.5مليون طن من مادة الحديد القابل للتدوير. كذلك، يمكن كل وحدة بيتونية إنتاج ما يقارب 20 متراً مكعباً من البرادة القابلة لإعادة التدوير، حيث يمكن استخدامها في صناعة مواد البناء، الأمر الذي يوفر قرابة 30 في المئة من المواد اللازمة لإعادة الإعمار، كذلك يمكن استخراج مواد بلاستيكية ونحاسية ومواد صناعية أخرى من الردم، وهي كمية لا يستهان بها.

وفورات بالمليارات!
حقق مشروع تدوير الأنقاض، منذ انطلاقه في حلب وحمص والغوطة الشرقية، وفراً بأكثر من مليار ليرة. ويوضح مدير فرع المنطقة الجنوبية في الشركة العامة للطرق والجسور، خدام عبد الله، أن «الركام الذي خلّفته الحرب سيُحوّل إلى مشروع اقتصادي واستثماري تستفيد منه الدولة، لا ليكون عبئاً عليها، وخاصة أنه سيوفر مليارات الليرات ويخفف النفقات الناجمة عن الترحيل». ويشرح عبد الله أن الحكومة عمدت منذ ثلاث سنوات إلى تأهيل القطاع العام والخاص للمشاركة في إعادة الإعمار، عبر تجهيز كوادر وزارة الأشغال للمرحلة المقبلة، ولأجل هذا الغرض «صُنعت كسارات محلية تفرز الأنقاض وتطحنها، مع استيراد آليات جديدة، لكن تبقى الإمكانات محدودة قياساً بحجم الخراب». ويرى أن الدولة «شكّلت نواة لشركات وطنية تعمل في المناطق المحررة، لكنها تحتاج إلى التعاون مع أصدقائها في مرحلة إعادة الإعمار».
ويؤيّد عضو مجلس نقابة المقاولين والمشارك في لجان إعادة تدوير الأنقاض، محمد جاد الله، هذا التصور، بتأكيده أن «وزارة الاشغال تصدّت لمسألة تدوير الأنقاض بقوة حينما بادرت إلى تشكيل لجنة لدراسة الشروط الفنية لإعادة تدوير الأنقاض، وأخرى لدراسة الجانب المالي والحقوقي»، معتبراً أن بدء تدوير الأنقاض في حرستا ليس مؤشراً على انطلاق المشروع، لكون المرحلة المقبلة بحاجة إلى عمل كبير وعدد هائل من الآليات. وهنا، يطلب جاد الله التفريق بين ما تقوم به الدولة بنحو إسعافي لناحية فتح الطرقات وتسهيل أمور المواطن، وبين عملية تدوير الأنقاض تمهيداً لمرحلة إعادة الإعمار، التي عدّها «موضوعاً سيادياً اقتصادياً، يستلزم بيئة تشريعية مناسبة لمعرفة كيفية التعامل مع الأنقاض التي تنطوي على أملاك خاصة بملكيات متعددة، مع قوانين أخرى تشجع على الاستثمار في سوريا»، مشدداً على «ضرورة تطوير قانون العقود ليكون عصرياً ومرناً». وعن دور القطاع الخاص في تدوير الأنقاض، ولاحقاً في إعادة الإعمار، أكد جاد الله أنه «سيُعلَن تأسيس شركة مقاولات كبرى خلال شهرين تقريباً».
ورغم أهمية اعتماد الدولة على خبرات كوادرها في تدوير الأنقاض، يشدد الخبير العقاري عمار اليوسف، على أن «تحقيق هذه العملية جدواها يشترط الاقتناع بأن سوريا بدأت بمرحلة إعادة الإعمار، مع وجوب قرب معامل التدوير من مناطق إزالة الدمار، لتوفير أجور النقل والمدد الزمنية، وتوفير البنى التحتية المتعلقة بإعادة التدوير وفق المعايير العالمية الحديثة، واستجرار مصانع إعادة التدوير، ومحاولة تصنيعها في سوريا بالسرعة الكلية، ودون ذلك ستكون العملية خاسرة».