يحاول معارضو قرار الانسحاب الأميركي من سوريا تقديم «حلّ وسط» قائم على عملية إعادة تموضع، مع تحويل المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد» إلى إقليم كردي شبيه بما هو قائم في شمال العراق. لكن فرص نجاح تلك المحاولة ضئيلة جداً، بالنظر إلى اختلاف أولويات الرئيس الأميركي، ورفض اللاعبين الإقليميين والدوليين المعنيين بالأزمة السورية أي سيناريو من هذا القبيل.اتهامات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، للولايات المتحدة بالسعي إلى تقسيم سوريا، والتي جاءت بعد إشادات من عدة مسؤولين روس، في مقدمهم الرئيس فلاديمير بوتين، بقرار الانسحاب الأميركي من هذا البلد في الأسابيع الماضية، بدّدت الآمال بقرب التوصل إلى تفاهمات دولية وإقليمية حول مرحلة ما بعد الانسحاب. مصادر غربية مطلعة زارت الولايات المتحدة أكدت، لـ«الأخبار»، أن العقبة الرئيسة التي تعيق التوصل إلى مثل هذه التفاهمات هي الانقسامات داخل الإدارة الأميركية، بين تيار بات غالبية فيها، بقيادة جون بولتون ومايك بومبيو، ومعهما الفريق المكلّف بإدارة الملف السوري بقيادة الثنائي جيمس جيفري وجويل رايبرن، من جهة، وصاحب القرار النهائي، وهو دونالد ترامب، وأقلية مقتنعة بوجهة نظره، من جهة أخرى.
الرئيس الأميركي هو من سيحسم الوجهة الفعلية التي ستعتمدها الولايات المتحدة، لكنه يواجه، في ما يخصّ الملف السوري، تقاطعاً واسعاً بين الجناح الغالب في إدارته، وبين التيار الرئيس في الدولة العميقة، ومنه الـ«بنتاغون» وأجهزة الاستخبارات المختلفة، يعارض قراره بالانسحاب، ويحاول أن يفرض عليه تعديلات تسمح بالحفاظ على الوجود والنفوذ الأميركيين في شرق الفرات، حتى بعد سحب جنود الجيش. ولتحقيق هذه الغاية، قامت هذه الأطراف بتقديم وعود للأكراد السوريين باستعدادها لدعم إنشاء إقليم كردستان سوري، على غرار ذلك الذي نشأ بفضل الدعم الأميركي في شمال العراق عام 1991، بعد الحرب التي شُنّت على هذا البلد بذريعة تحرير الكويت.
ترجّح المصادر المطلعة أن سلسلة من التطورات السياسية والميدانية هي التي تفسّر حدة تصريحات لافروف. سبق هذه التصريحات تحذير شديد اللهجة وجّهه الجنرال بول لاكاميرا، قائد قوات «التحالف» الذي تتزعّمه الولايات المتحدة ضد تنظيم «داعش»، لـ«قوات سوريا الديموقراطية» من مغبّة أي تعاون مع الجيش السوري أو الروسي. قال لاكاميرا: «سنستمر في تدريبهم وتسليحهم (أي قسد) طالما ظلّوا حلفاءنا. ستنتهي علاقتنا معهم إذا عادوا للتعاون مع النظام، الذي ليست لدينا علاقة معه، أو مع الروس. عندما يحصل ذلك، لن نكون شركاء لهم من بعدها».
تقسيم سوريا خط أحمر بالنسبة إلى روسيا وإيران وتركيا والدولة السورية


تشير المصادر إلى أن هذا التحذير العلني، الذي تلى تحذيرات أخرى غير علنية للأكراد من القوات الأميركية، يشكّل تغييراً في الموقف الذي ساد في الفترة السابقة، أيام المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص لـ«التحالف الدولي» ضد «داعش» بريت ماكغورك، الذي لم يمانع إمكانية وجود أشكال مختلفة من التعاون بين «قسد» والجيش السوري، ولا حتى تفاوض الأكراد مع الدولة السورية حول شروط التسوية النهائية بينهما. الجديد اليوم هو رفض أي تفاوض أو حتى أي تفاهم موضعي ومؤقت بين الأكراد والدولة السورية. يضاف إلى هذا الأمر، بحسب المصادر، تغاضي القوات الأميركية عن دخول شحنات سلاح كبيرة من كردستان العراق إلى «قسد» في الأسابيع الماضية، مما استفزّ عدة قوى بينها الدولة السورية وتركيا.
أكثر ما لفت المصادر، خلال زيارتها إلى الولايات المتحدة، هو البون الشاسع بين توجهات الرئيس ومؤيدي وجهة نظره، وبين ائتلاف عريض يضم أطرافاً من داخل الإدارة وخارجها. هذه الأطراف قدمت رؤيا مفادها أن سحب الجنود لا يفترض بالضرورة أن يعني انسحاباً أميركياً يشكل خطراً على مصالح واشنطن وحلفائها. هي ترى أن المطلوب هو مجرد إعادة تموضع يُستبدل فيها خبراء عسكريون ومجموعات من الاستخبارات الأميركية وشركات الأمن الخاص بالجنود، على أن يتمّ تعزيز هذا التموضع بقيام الولايات المتحدة بفرض منطقة حظر جوي وبري (No Fly Zone and No drive Zone)، تمنع دخول أي قوات إلى المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، وبشكل خاص قوات الجيش السوري وحلفائه. وقد وعدت تلك الأطراف، الأكراد، بأنها ستمهد، من خلال هذه السياسة، لقيام إقليم كردي مماثل لذلك الذي في العراق. يهدف هذا العرض، بطبيعة الحال، إلى تعزيز موقف التيار المشكّك في وسط الأكراد في جدوى التفاوض مع الدولة السورية برعاية روسية، للتوصل إلى حل سياسي بينهما يتيح استعادة سوريا لكامل سيادتها على أراضيها.
الطرف الكردي يقف اليوم على مفترق طرق، بعد اهتزاز ثقته بواشنطن نتيجة إعلان ترامب للمرة الثانية قراره الانسحاب. ثمة تيار معتبر بين الأكراد أصبح مقتنعاً بعدم جدوى الرهان على الوعود الأميركية لضمان مستقبلهم. يرى هذا التيار أن الموقف الأميركي من الاستفتاء على استقلال إقليم «كردستان»، والذي دفعت إليه قوى حليفة تاريخياً للولايات المتحدة، درس ينبغي الاعتبار منه جيداً. يضاف إلى هذه الحقيقة معطى آخر، وهو أن الظروف الدولية والإقليمية التي سمحت لواشنطن برعاية قيام إقليم «كردستان» لم تعد قائمة بتاتاً. يومها، انفردت الولايات المتحدة بالعراق والمنطقة في ظلّ حالة ضعف استثنائية لجميع اللاعبين الإقليميين والدوليين، وعجز كامل من قِبَلهم عن التأثير في مجرى الأحداث.
أبرز اللاعبين الموجودين الآن على الأرض السورية، روسيا وتركيا وإيران والدولة السورية، سيعارضون هذا المشروع، وسيعملون على إفشاله إن جرت مساعٍ جدية لوضعه موضع التنفيذ، وهو ما تستبعده المصادر أيضاً؛ نظراً إلى الانقسام الأميركي حوله. «ترامب يريد الانسحاب من سوريا، والحدّ من التورط في الشرق الأوسط للتفرغ لأولويات أخرى. الكتلة المعارضة للانسحاب تقدم له تصورها حول إعادة التموضع، كحلّ وسط بين ما يريده وبين المتمسكين ببقاء القوات. حلّ يحافظ على المصالح الأميركية ومصالح الحلفاء، وينسجم مع استراتيجية احتواء إيران، ويحفظ ماء وجه واشنطن تجاه حلفائها الأكراد بكلفة محدودة. سيكون من الصعب جداً إقناعه بذلك لأن أثمان إعادة التموضع ستكون مرتفعة إذا امتدّت العملية زمنياً، وترتّبت عليها مواجهات محتملة مع القوى المعارضة. نحن أمام محاولات قصيرة الأمد وغير مضمونة النتائج للحفاظ على موطئ قدم أميركي»، تختم المصادر.
تقسيم سوريا من خلال رعاية مشروع إقليم كردي في شمال شرقي الفرات خط أحمر بالنسبة إلى روسيا وإيران وتركيا والدولة السورية بطبيعة الحال. تصريحات وزير الخارجية الروسي على ضوء هذا الواقع رسالة جماعية لِمَن يهمّه الأمر في واشنطن.