تعايشت «جبهة النصرة» مع تنظيم «حرّاس الدين» عاماً كاملاً (هو عمر «الحرّاس»)، اختبرت علاقاتهما في خلاله حالات شدّ وجذب كثيرة، وتأرجحت ما بين العداء المضمر، والتوتر القابل للاحتواء، ومحاولات «رأب الصدع». أخيراً، تغيّرت المعادلة بشكل جذري، وبات تكرار سيناريو «النصرة – داعش» احتمالاً مرجّحاً. لا يمكن عزل أسباب الانفجار المرتقب عن العوامل «الخارجية»، ولو في صورة غير مباشرة. فحتى نهاية العام الماضي كان الإيقاع مضبوطاً، والتوافق على إيجاد مُشتركات تسمح باحتواء أي «فتنة» سيّد الموقف. أكثر من ذلك، كانت الزيارات المتبادلة بين قيادات الفصيلين المتطرفين نشطة، والتنسيق «الأمني» في أوجه. (راجع «الأخبار»، 15 تشرين الثاني 2019). مع انطلاقة العام الجديد تغيّر كلّ شيء، وفاجأت «النصرة» الجميع بتدشين مرحلة نشاط حثيث هدفه غير المعلن «التمدّد»، ووضع أكبر مساحة ممكنة تحت عباءتها.ما دار في كواليس إدلب منذ ذلك الوقت «أكبر وأخطر بكثير مما خرج إلى العلن»، وفقاً لما تؤكده مصادر «جهادية» لـ«الأخبار». ويضع مصدر بارز تفجّر الخلاف بين «الجبهة» و«الحرّاس» ضمن إطار أوسع، «تطاول انعكاساته تنظيم القاعدة نفسه». يوضح المصدر أن «قرار قيادة الحرّاس فتح الملفات العالقة علناً جاء تحت ضغط تحركات في صفوف الهيئة (تحرير الشام) أقلّ ما يُقال عنها إنها مشبوهة». ويؤكد في الوقت نفسه أن «التخطيط لفرض جسم عسكري جديد ليس سوى تفصيل، والمشروع، كما وقفنا عليه، يتلطّى تحت ستار درء المخاطر ومهادنة بعض الدول الإقليمية، لكنه يهدف إلى تصفية كلّ فصيل لا يطيع الجولاني». وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن زعيم «النصرة» باشر في الأسابيع الثلاثة الماضية حملة «علاقات عامة»، تسعى إلى دفع بعض المجموعات «الجهادية» نحو التخلّي عن «بيعة» التنظيم الأم «القاعدة»، والالتزام بـ«بيعة» بديلة يطلبها الجولاني لنفسه.
ويأتي هذا الحراك في إطار استعار «صراع المشاريع الجهاديّة» (راجع «الأخبار»، 1 شباط 2019). وتنشط في إدلب مجموعات «قاعدية» عديدة، علاوة على مئات (على الأقل) من «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين) المنتسبين تنظيمياً إلى «تحرير الشام»، من دون التخلي عن «البيعة الشرعية» لـ«القاعدة». وتوضح معلومات «الأخبار» أن «عدداً كبيراً ممّن خاطبهم مبعوثو الجولاني باتوا قاب قوسين من الموافقة على تبديل البيعة»، فيما يجهد آخرون لإقناع الجولاني بأن «مبايعة الشيخ (أيمن) الظواهري لا تتعارض مع التزام التنسيق التنظيمي مع الهيئة، طالما أن الهدف الشرعي واحد، وهو إقامة حكم الشريعة». ولا يبدو مرجّحاً قبول الجولاني بالصيغة الأخيرة، فهي الصيغة القائمة حالياً، ولو كانت مقبولة لما سعى الرجل إلى استبدالها.
اللافت أن «حرب البيانات» التي انطلقت أخيراً بين «الهيئة» و«الحرّاس» شهدت دخول «المهاجرين» على خطها، إذ صدر بيان منسوب إلى «المهاجرين في الشام المباركة» حمل عنوان «نصرة ووفاء لهيئة تحرير الشام»، حفل بامتداح «الهيئة» التي كانت «خير من حمل راية الجهاد في هذه الأرض المباركة». وحمل البيان توقيع «الأمير العام للحزب الإسلامي التركستاني»، و«الأمير العام لكتيبة التوحيد والجهاد»، و«الأمير العام لجيش المهاجرين والأنصار»، و«الأمير العام لكتيبة الألبان»، و«الأمير العام لحركة المهاجرين السنّة من إيران»، وغيرهم. وعلاوة على ما يعنيه هذا البيان من انقسام حقيقي في صفوف «القاعديين» في سوريا بين معسكرَي «الهيئة» و«الحرّاس»، فإنه يقدم اعترافاً جديداً بأن «فك الارتباط» الذي أعلنته «النصرة» قبل سنوات لا يعدو كونه «إجراءً تكتيكياً». في الوقت نفسه، يكشف البيان مدى سذاجة الطروحات التي وُضعت في التداول مجدداً حول إعادة تأهيل «الهيئة» وإيجاد صيغة لدمجها في «الجيش الوطني»!
دخل «المهاجرون» على خط «حرب البيانات» الأخيرة بين «الهيئة» و«الحرّاس»


في المقابل، ظلّت «جبهة أنصار الدين» متمسكة بوقوفها في صفّ «حرّاس الدين». وتصاعدت حدّة الخطاب المتبادل بين الأخير و«الهيئة»، وصولاً إلى تقاذف التهم بالخيانة والغدر والكذب، والتشبّه بـ«داعش». ووجّه الأردني سامي العريدي، أحد أبرز قادة «حرّاس الدين»، خطاباً إلى عبد الرحيم عطّون، أبرز شرعيي «النصرة»، اتهمه فيه بـ«تقمص دور (أبو محمد) العدناني وقادة تنظيم داعش». وكان عطّون بدوره قد وجّه رسالة تناولت «ستّ مسائل» خلافية بين «الهيئة» والحرّاس»، واشتملت على تهديدات في ما يخص مسألة السلاح، الذي يؤكد «الحرّاس» أن «الهيئة قد سرقته من تنظيم القاعدة». وبدا لافتاً أن عطّون قد أكد ما ورد في اتهامات «الحرّاس» السابقة حول استحداث «جسم عسكري» جديد، وحول فتح الطرق الدولية، وإن بصورة مواربة. المفاجئ أن «الشرعي» البارز قال إن «هذه الطرق مفتوحة منذ سنوات، ولم تغلق، وإن كانت لا تعمل بصورتها الطبيعية»، لكنه حرص في الوقت نفسه على التذكير بموقف «الهيئة» الرافض لاتفاق «سوتشي». وعلى رغم التناقض الذي ينطوي عليه كلام عطّون ظاهرياً، فإنه في جوهر الأمر قد يشير إلى استعداد «الهيئة» لفتح الطرق الدولية تحت سيطرتها، وفق صيغ تلتفّ على «سوتشي». ويعيد هذا الاحتمال تسليط الضوء على مستقبل مناطق «النصرة» في المدى المتوسط، في ظلّ تعقيدات المشهد السوري وتداخلاته الإقليمية. ويحضر من بين السيناريوات المحتملة واحد يستلزم التعايش مع «إمارة إسلامية» بواجهة «مدنية» (راجع «الأخبار» 10 كانون الثاني).



الظواهري يبحث عن «سبيل الخلاص»
تؤكد مصادر «جهادية» لـ«الأخبار» أن قيادة «القاعدة» قد «وُضعت في صورة أهداف الجولاني الخبيثة»، الرامية إلى أخذ البيعة لنفسه من جزء من منتسبي «القاعدة» في سوريا. ومن غير الواضح ما إذا كانت «الإحاطة» قد تمّت قبل تسجيل كلمة الظواهري الأخيرة وبثّها. ويُرجّح أن تسجيل الكلمة أسبق، نظراً إلى أن المحاذير الأمنية التي يلتزمها التنظيم عادةً ما تكون شديدة، وتدفعه إلى تسجيل هذا النوع من الكلمات قبل وقت طويل من موعد بثّها. على رغم ذلك، بدا لافتاً أن معدّي الرسالة المصورة قد حرصوا على إدراج مقاطع فيها لعدد من «الوجوه القاعدية» البارزة من أحياء وأموات. وجاءت الكلمة التي حملت عنوان «سبيل الخلاص»، أشبه بنعي جديد لـ«الربيع العربي»، وتضمّنت انتقادات شديدة اللهجة لـ«القادة» اللاهثين وراء الدول الإقليمية (في إشارة إلى تركيا)، وهو أمر ينطبق على الجولاني بطبيعة الحال. كما حرص الظواهري على «استخلاص الدروس» من الفشل «الجهادي» الراهن بغية إيجاد «سبيل الخلاص»، ورسم ملامح المرحلة المقبلة. وهذا هو «النعي» الثاني من نوعه الذي يصدر عن الظواهري، بعد الرسالة المصورة التي أصدرها في كانون الثاني/ يناير 2018 بعنوان: «بعد سبع سنوات أين الخلاص؟»