تُعدّ زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، لإسرائيل السبت الماضي، زيارة طمأنة تجاه حليف أعرب عن «صدمة» جراء قرار الرئيس دونالد ترامب، الانسحاب البري من سوريا، لكنها في السياق، وربما في المقام الأول، زيارة عرض قلق متبادل بين الطرفين، يشمل سوريا ولبنان وإيران إسرائيلياً، ويقابله قلق أميركي من الصين التي بدأت «تتغلغل» في الداخل الإسرائيلي، على نحو يُخشى منه التأثير السلبي بمصالح واشنطن في المنطقة، وما وراءها أيضاً.في الخلفية، لم يتضح هل الزيارة مقررة مسبقاً أو أنها نتيجة مباشرة لقرار الانسحاب من سوريا، علماً أنه في الحالتين، يفرض القرار نفسه على جدول أعمال الزيارة، وتحديداً من ناحية إسرائيل التي تدرك أن القرار اتُّخذ، وأن رجالات ترامب يعملون على تقليص تبعاته السيئة عليها، لكنها في السياق معنية باستغلال الفرصة المتاحة للضغط باتجاه تمكين أطماعها ودفع الإدارة الأميركية إلى الاعتراف بـ«سيادتها» على الجولان السوري المحتل كجزء من تعويض الانسحاب، وبمناسبته.
بالطبع، زيارة بولتون تختلف عن زيارات المسؤولين الأميركيين الآخرين، لا لأنه يتوافق ومعنيّ أكثر بالمصالح الإسرائيلية، بل لأنه أكثر تشدداً من المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم في كل ما يتعلق بهذه المصالح، ولا يخفي مزايداته عليهم. فمن ناحيته، تأييد إسرائيل مبني على التزام عقائدي قبل أن تكون حليفة لأميركا، وقبل دورها الوظيفي في تمكين مصالحها. وبوصفه مستشار الأمن القومي، ناقش بولتون المسؤولين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في ملفات أمنية وصفها بـ«ذات الاهتمام المشترك»، فيما عمد الإعلام العبري لاحقاً إلى تحديدها مع التوسع فيها، من دون أن يصدر عن الجانبين أي خلاصة رسمية حول نتائج الزيارة وتفاصيل ما اتُّفق عليه.
في ذلك، ركزت التسريبات الإسرائيلية على أربعة ملفات، أحدها كان بارزاً جداً: إعراب الولايات المتحدة عن قلقها العارم جداً من التغلغل الاقتصادي الصيني في إسرائيل بما يحمل من تحديات أمنية كامنة. وكما بات معروفاً، نجحت الشركات الصينية في الاستحصال على عقود استثمار في البنى التحتية الإسرائيلية، ومن بينها تطوير السكك الحديدية، وأنفاق الكرمل، وأخيراً نجاح شركة «SIPG» الصينية في الاستحصال على عطاء لتوسيع ميناء حيفا، وهو ما يثير قلق الأميركيين.
في هذا الإطار، تنقل صحيفة «هآرتس» مخاوف جنرال أميركي من السيطرة الصينية على ميناء حيفا، وهو يعني فيه ـــ حال ترسخ عطاء تطوير الميناء على الجانب الصيني ـــ أن كل التكنولوجيا الإسرائيلية والأميركية ستكون عرضة للانكشاف والقرصنة عن قرب، ما يعني أن الأسطول السادس الأميركي لن يستطيع أن يشعر بعد اليوم بأن هذا الميناء تابع له، وينضم في النتيجة إلى سلسلة الموانئ الشرق ــــ أوسطية التي باتت ضمن سيطرة الصين.
لم يتضح ما إذا كانت الزيارة مقررة مسبقاً أو نتيجة مباشرة لقرار الانسحاب


وبينما أكدت التسريبات العبرية أن القلق من الصين كان الموضوع الأول في تركيز بولتون، أكدت أن الجانب الإسرائيلي ركز على مواضيع ثلاثة ذات طابع أمني، مع معانٍ وتبعات استراتيجية: الانسحاب الأميركي من سوريا، حيث أكد بولتون لمضيفيه أن أميركا ملتزمة كل ما يتعلق بأمن إسرائيل، مع التشديد في السياق على أنها لن تنسحب من قاعدة التنف على مثلث الحدود مع العراق والأردن، وأنها ستقف إلى جانب إسرائيل سواء من سوريا أو من خارجها، وهي لن تخرج من المنطقة كما يردد البعض.
الملف الثاني هو ما تسميه إسرائيل «التمركز الإيراني» في سوريا والسبل المشتركة مع الأميركيين لصده ومنعه، وهو ما لقي موافقة من المستشار الأميركي برزت في تصريحاته وفي التسريبات التي واكبت الزيارة، من دون تفصيل في كيفية التوصل إلى هذه النتيجة مع التعذّر الميداني ومع الانسحاب الأميركي، إلا إذا جرى العمل على إفراغ قرار الانسحاب من مضمونه مع المحافظة الشكلية عليه، وهو ما يمكّن إسرائيل من معاودة الرهان على الأميركيين، لمبادلة «وجودهم» هناك بالوجود الإيراني في سوريا.
أما الملف الثالث، وهو الأكثر أهمية لنتنياهو سياسياً قبل الانتخابات العامة المبكرة للكنيست، فهو اعتراف الإدارة الأميركية بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل. هنا، تذكر القناة العاشرة العبرية أن رئيس الحكومة نقل طلباً إلى البيت الأبيض للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وهو يطرح ذلك على خلفية الانسحاب الأميركي كجزء من محاولة للحصول من الأميركيين على بادرة سياسية تكون نوعاً من التعويض عن الانسحاب، وهو الطلب نفسه الذي أسمعه إلى وزير الخارجية مايك بومبيو خلال لقائهما في البرازيل.
«هآرتس»، التي ركزت على القلق الأميركي من الصين وتغلغلها في إسرائيل، كشفت أن معارضة واشنطن للعلاقة الآخذة بالتعزز بين إسرائيل والصين تحولت إلى علنية، وأصبحت أكثر تقييداً. وكشفت الصحيفة أن «القلق الأميركي من تعزيز العلاقات التجارية والتكنولوجية... احتل مكاناً أساسياً» في المحادثات، خاصة أنها «ليست المرة الأولى التي يطرح فيها مسؤولون أميركيون قضية الاختراق الصيني، إذ سبق أن حذروا نظراءهم الإسرائيليين من أن الدور الصيني في توسعة ميناء حيفا وبنى تحتية أخرى سيضع عقبات أمام استمرار التعاون مع البحرية الأميركية، وهو ما دفع الأميركيين إلى تحذير إسرائيل: نظموا موضوع التجارة مع الصين، أو ننظمه (نحن).
الملفات الأربعة المعلَنة تسريباً، ورد تأكيدها عبر التصريحات والمواقف التي جاءت على لسان بولتون ونتنياهو و«مصادر» لدى الجانبين، لكن الملفات التي بقيت في الغرف المغلقة من دون تسريب قد تكون الأكثر حضوراً على جدول الأعمال الفعلي والأكثر أهمية في الزيارة، مع أو من دون علاقة لها بالملفات الأربعة، وإن جاءت الزيارة في الشكل لتركز في سياق القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا على موضوع الطمأنة والإعراب عن متانة الحلف والعلاقة بين الجانبين.