تطوي الحرب السوريّة عاماً آخرَ حافلاً بالأحداث الميدانيّة، فيما يقف مستقبل البلاد على مفترقٍ حاسم على مختلف الصعد. وإذا كانت خواتيم العام الماضي قد حملت معها ملامح انفراجة على صعيد علاقة دمشق بمحيطها العربي، مع ما قد يعنيه ذلك من فرصة لقطع خطوات في مسار التسويات المنشودة، فإنّ مجريات العام بمجملها تبدو صالحة لوضع «سوريا الغد» أمام احتمالات مفتوحة في ما يتعلّق بالجغرافيا (سيادةً ووحدةً) وما يتّصل بالهوية و«المصير المشترك» بين السوريين بمختلف مكوّناتهم وانتماءاتهم. ومثلما انتهى العام 2017 على وقع تهديدات بـ«تمدد» الغزو التركي (سرعان ما تحوّلت إلى أمر واقع) يتكرّر الحال في نهاية العام 2018. وحتى الآن، يصعُب الجزم بأنّ سيناريو عفرين لن يتكرّر في منبج، في ظلّ تعاظم الدور التركي، وتعقيدات المصالح التي تجمع بين حلفاء دمشق وبين أعدائها، واتساع الهوّة بين الفرقاء السوريين وصعوبة مدّ الجسور في معزل عن التأثيرات الخارجيّة. ومن المُنتظر أن يشكّل مصير منبج أول اختبارات العام الجديد، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات على مشهد «شرق الفرات» بأكمله. وتحظى منبج بأهميّة كُبرى في المعادلات المستقبليّة، سواء على صعيد موقعها الجغرافي، أو لجهة ما تمثّله من حالة مفتاحيّة صالحة لتكريس تفاهمات بين دمشق وبين «الإدارة الذاتيّة» (والكيانات المرتبطة بها)، مع ما يعنيه ذلك (في حال تحققه) من تحجيم دور أنقرة في المعادلة السوريّة. وحتى الآن، أجاد الأتراك الإفادة من كل المُجريات في تجذير حضورهم في المناطق التي تمّ احتلالُها بمسميّات مختلفة («درع الفرات»، «غصن الزيتون»، «نقاط المراقبة»).
من المُنتظر أن يشكّل مصير منبج أول اختبارات العام الجديد


ورُبطت معظم تلك المناطق بأنقرة اقتصاديّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً، فيما تواصلت بهدوء عمليات «مأسسة المجموعات المسلّحة» ووُضع مصطلح «الجيش الوطني» قيد التداول مع ما يعنيه ذلك من رصيد صالح للاستثمار على طاولات «الصفقة النهائيّة». وأفضى العام الأخير إلى بسط سلطة الدولة السوريّة على مساحات جديدة من الجغرافيا، وأقصى التهديدات بعيداً من العاصمة، وأعاد فتح معابرها الجنوبيّة تحت سيطرة حكوميّة. لكنّه شهد في الوقت نفسه تجذيراً للاحتلال التركي في ريف حلب الشمالي، وترك الباب مفتوحاً أمام كل السيناريوات في إدلب، وانتهى على مشهديّة غامضة في «شرق الفرات». وفيما تلاشت في شكل شبه نهائي السطوة الجغرافيّة لتنظيم «داعش»، حظيت تنظيمات متطرّفة أخرى بفرصة لالتقاط الأنفاس وتعزيز هيمنتها على حياة السوريين في إدلب وريف حلب الغربي. وأفلح تنظيم «حرّاس الدين» (الممثل الجديد لتنظيم «القاعدة») في فرض نفسه «حاكماً بأمر الشريعة» في عدد من مناطق إدلب، تُنافسه في ذلك «جبهة النصرة» التي أفلحت في تجيير اتفاق «المنطقة المنزوعة السلاح» لمصلحتها (مرحليّاً على الأقل) لتعيد انتشارها بما يضمن رضى أنقرة ولا يشكّل تهديداً وجوديّاً لسلطة أبو محمد الجولاني. واستهلّت «النصرة» العام الجديد بـ«تمدّد» لافت في توقيته وجغرافيّته، فيما لا يزال تنفيذ اتفاق «سوتشي» ناقصاً في ظلّ تلاشي الحديث عن فتح أتوسترادَي «حلب، دمشق/ M5» و«حلب، اللاذقية/ M4». وحتى الآن، تحتفظ المجموعات المسلّحة بقدرتها على تهديد أحياء حلب، وريف اللاذقية الشمالي، وريف حماة الشمالي.
وأدّت تطوّرات المشهد في الشرق السوري إلى صرف الأنظار عن إدلب حتى وقت غير معلوم، في خضمّ البحث عن إجابات لأسئلة «ملء الفراغ» المتوقع حدوثه فيما إذا تمّ تنفيذ الانسحاب الأميركي المزعوم. ولم يُسجّل رابعُ المبعوثين الأمميّين (غير بيدرسون) أي نشاط حقيقي بعد أن ورث «المهمّة المستحيلة» من المبعوث السابق ستيفان دي ميستورا، الذي انضمّ إلى سلَفيه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، من دون تحقيق إنجاز حقيقي في مسار «جنيف» المجمّد، أو حتى تطويب مسار «سوتشي» بتشكيل «اللجنة الدستوريّة» الموعودة. وكان العام 2018 قد شهد تكراراً لدقّ طبول الحرب الخارجيّة (الرسميّة) لا سيّما مع شنّ «العدوان الثلاثي» في شهر نيسان. وتكرّرت الاعتداءات الإسرائيليّة على رغم المعادلات جديدة التي فُرِضت في أعقاب إسقاط المروحيّة الروسيّة منتصف أيلول. ووسط كلّ هذه التعقيدات، استمرّ السوريون (داخل البلاد وخارجها) في دفع أثمان فادحة على مختلف الصعد. وعلى رغم انخفاض عديد الضحايا بفعل انحسار رقعة المعارك وخفوت «قعقعة السلاح» قياساً بالأعوام السابقة، فإنّ الموت ما زال حاضراً في يوميّات السوريين شأنه شأن الكوارث الاقتصاديّة والمعيشيّة. وفيما تستمرّ المعاناة «الخدميّة» داخل مناطق سيطرة الحكومة، تجدّدت كوارث المخيّمات وسكّانها، وأضاف اللاجئون عاماً جديداً إلى عدّاد سنواتهم بعيداً عن البلاد.