فشلت إسرائيل خلال الأسابيع الماضية في تحصيل ضمانات من موسكو تتيح لها العودة إلى مرحلة ما قبل سقوط الطائرة الروسية. منذ منتصف أيلول الماضي، تردد العدو في تنفيذ أي اعتداءات جديدة في سوريا لنكون أمس أمام محطة جديدة من الاشتباك الروسي ــــ الإسرائيلي والسوري ــــ الإسرائيلي، بعد استهداف مناطق في جنوب البلاد، يبدو أنّ تل أبيب تقصّدت أن تكون «صاخبة»... لكن من دون نتائج عملياتية.مرّ شهران ونصف شهر على الاعتداء الإسرائيلي على مواقع في مدينة اللاذقية، والذي أفضى إلى سقوط طائرة روسية. منذ تلك الفترة، تغيّرت المعادلة القائمة فوق الأجواء السورية. كانت كل من موسكو وتل أبيب تعتمدان على «آلية تنسيق» تتيح للعدو أن «يفعل ما يشاء». محاولة كسر هذه «المعادلة» عملت عليها دمشق بالتعاون مع طهران، ليظهر في الأشهر الأخيرة أشكال جديدة من الردود الدفاعية الصاروخية تُوّجت بإسقاط طائرة إسرائيلية في شباط الماضي.
بعد «حادثة اللاذقية»، ألغت موسكو العمل بالتفاهمات السابقة مع العدو. أعلنت صراحة رفضها للصيغة السابقة و«رمت» خلفها المقترحات الإسرائيلية الجديدة. هذا الاستعصاء المستجد في العلاقة بين الطرفين فرمل حرية حركة سلاح جو العدو. يوم أمس، استهدفت الطائرات الإسرائيلية مواقع في جنوب العاصمة دمشق. دفعتان من الصواريخ التي أُطلقت من خارج الأجواء السورية تصدّت لها الدفاعات الجوية على مدى أكثر من 20 دقيقة، وتمكنت من إسقاط معظمها، فيما لم تُصب الصواريخ الباقية أي مواقع عسكرية؛ وسقطت بقايا بعض صواريخ الدفاع الجوي في مناطق القنيطرة والجولان المحتل. ملابسات الاعتداء الجديد الذي هدّدت إسرائيل بتنفيذه مراراً منذ تسلّم سوريا منظومة الدفاع الجوي «S 300»، تكشف أن الصواريخ كانت تحمل رسائل متعددة الجوانب. لم تستهدف عشرات الصواريخ منشآت معيّنة شبيهة بالضربات السابقة. أراد العدو أن يؤكد أولاً أنّه ليس مردوعاً، وباستطاعته أن يواصل مخططاته في الساحة السورية تجاه ما يصفه بالخطوط الحمر (التمركز الإيراني/ نقل أسلحة إلى لبنان)، وأنّه رغم العناد الروسي والرفض التام لأي صيغ تفاهم جديدة، قادر على أن يتصرّف بما يراه «أمناً قومياً».
التصعيد الإسرائيلي الذي يفتح المجال أمام عودة التوتر في القنوات الدبلوماسية والأمنية سرق الأضواء التي كانت مسلطة على العاصمة الكازاخية، حيث عقدت الجولة الحادية عشرة من محادثات أستانا. ولم تحمل هذه الجولة المنقضية أي جديد يبنى عليه على مسار «التسوية» في سوريا. وعلى خلاف الرهانات الأممية على تحصيل توافقات حول تشكيلة «اللجنة الدستورية»، بقيت النقاط الخلافية عالقة من دون وجود تصوّر واضح لحلّها في الأفق القريب. هذا «الفشل» ترك الباب مفتوحاً أمام أشهر (أو ربما سنوات) تضاف إلى الأشهر العشرة التي انقضت منذ أن أقر تشكيل اللجنة في سوتشي. وسوف يقود على الأرجح إلى توريث هذا الملف إلى المبعوث الأممي الجديد، الذي سيخلف ستيفان دي ميستورا مطلع العام المقبل. المبعوث الراحل قريباً من منصبه، وصف جولة أستانا الأخيرة بأنها «فرصة ضائعة بالنسبة الى الشعب السوري، للإسراع بإنشاء لجنة دستورية ذات صدقية ومتوازنة وشاملة، تمتلكها وتقودها سوريا وتسيرها الأمم المتحدة». وأكد في بيان عقب مشاركته في اجتماعات العاصمة الكازاخية أنه «سيواصل متابعة كل الطرق للتغلب على العقبات التي تحول دون إنشاء هذه اللجنة الدستورية قبل التاريخ المستهدف، في 31 كانون الأول 2018».
لم تُصب الصواريخ أي مواقع عسكرية أو أمنية حساسة


التعويل الأممي على دفع مسار «اللجنة الدستورية» قوبل ببرود من «ضامني أستانا» في التعاطي مع هذا الملف، إذ ركّزت معظم التصريحات الصادرة عقب الاجتماعات على الوضع في إدلب ومحيطها، وتنفيذ «اتفاق سوتشي» هناك. وفي المقابل، لاقت واشنطن الجانب الأممي، موجهة انتقادات عنيفة لمسار «أستانا»، وتحديداً للنشاط الإيراني والروسي ضمنه. ففي بيان صدر سريعاً نسبياً، قالت الخارجية الأميركية إن الاجتماعات الأخيرة لم تُخرج «قائمة متفقاً عليها من أعضاء اللجنة الدستورية... وبالتالي فشلت في إحراز تقدم نحو العملية السياسية»، مضيفة إن هذه المبادرة التي خرجت عن مساري أستانا وسوتشي «وصلت إلى طريق مسدود». واعتبرت أن «إنشاء اللجنة الدستورية في جنيف وإطلاق عملها بحلول نهاية العام أمر حيوي... يحظى بتأييد دولي واسع، بما في ذلك القمة الرباعية في اسطنبول». كذلك رأت الخارجية الأميركية أن «روسيا وإيران تواصلان استخدام هذه العملية (أستانا) لإخفاء رفض نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد المشاركة في العملية السياسية»، موضحة أن الوصول إلى العملية السياسية «غير ممكن من دون أن يحمّل المجتمع الدولي دمشقَ المسؤولية الكاملة عن عدم إحراز تقدم».
هذه الانتقادات الأميركية غير المسبوقة لمسار أستانا، والإشارة إلى ضرورة تحميل دمشق مسؤولية «التعثّر»، تبدو تتويجاً لمسار بدأ منذ تحديد المهل لتشكيل «اللجنة الدستورية»؛ وهو ما لقي حينها رفضاً صريحاً من دمشق وموسكو. وهي تعكس موقفاً أميركياً رافضاً لإشراف روسيا وإيران وتركيا على مسار تشكيل اللجنة الدستورية، الذي تحوّل إلى مفتاح «التسوية السياسية». ويتقاطع ذلك مع رفض تلك الدول الضامنة لإشراك القوى السياسية المرعيّة أميركياً في شرق نهر الفرات، في مساري أستانا وسوتشي. وبرز في السياق نفسه، تضمين البيان الختامي لاجتماعات أستانا أمس، للمرة الأولى، فقرة تنص على «رفض جميع المحاولات لإنشاء حقائق جديدة على الأرض في سوريا بذريعة محاربة الإرهاب فيها، ورفض الأجندات الانفصالية التي تهدف إلى تقويض سيادة الأراضي السورية ووحدتها»؛ وأتى ذلك ملاقياً لتصريحات روسية وتركية تصوّب على الوجود العسكري الأميركي في الشرق السوري.
وكان لافتاً أمس أن وفد الحكومة السورية صعّد لهجة خطابه تجاه تركيا. إذ اعتبر الجانب التركي مسؤولاً بشكل مباشر عن خروقات «اتفاق سوتشي» وقصف حلب الأخير بقذائف تحوي مواد كيميائية. وذكّر رئيس الوفد بشار الجعفري بإدخال تركيا وحدات عسكرية وأسلحة ثقيلة إلى إدلب ومحيطها، وبعملها على «تتريك» مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرتها. ولم تبد دمشق أي ثقة بالتزام تركيا تجاه وحدة سوريا وأراضيها، رغم تأكيد البيان الختامي أمس على أن يكون إنشاء المنطقة «منزوعة السلاح» غير مؤثر على وحدة الأراضي السورية وسلامتها واستقلالها. وفي موازاة ذلك، أكد رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرنتيف أن بلاده تعوّل على «قيام الفصائل المعتدلة» بحل مشكلة وجود أكثر من 15 ألف إرهابي في منطقة إدلب، موضحاً أن بلاده على استعداد لتقديم العون في ذلك «بما يتضمّن مساعدة القوات الحكومية السورية».