تتجاوز سيّارة الأجرة ساحة العاصي في مدينة حماة قبل أن يطرح السائق سؤاله على المسافرين: «بتحبّو نروح من طريق خناصر أم من طريق أبو الضهور؟». قبل فترة، لم يكن أمام قاصدي حلب خيارات أخرى سوى طريق «السلمية، أثريا، خناصر» الذي حظي بلقب «شريان حلب» لسنوات طويلة. لكن على امتداد تلك السنوات، سبّب الشريان المذكور وقوع عشرات الضحايا من جرّاء أوضاعه الفنيّة السيئة، لتغدو أنباء حوادث السير فيه أمراً روتينيّاً. وبرغم أنّ الطريق البديل «حماة، أبو الضهور، حلب» لم يحظَ بالجاهزيّة المطلوبة بعد، فإنّ الرغبة بـ«عبور آمن»، والفضول لاستكشاف تفاصيل جديدة من جغرافيا المناطق المنكوبة يبدوان سببين كفيلين بتفضيل المسافرين له، أما السائق، فلا يُخفي سعادته بذلك القرار لأسباب «اقتصاديّة»، خلاصتها أنّ الطريق البديل «أقصر بشي 100 كيلو على الأقل». لم تعرف «الحياة المدنيّة» سبيلها إلى محطّات الطريق البديل بعد. تنتشر الحواجز العسكريّة على امتداد الطريق بين قرية «كوكب» (ريف حماة الشمالي) إلى بلدة «أبو الظّهور» (ريف إدلب الجنوبي الشرقي)، مروراً بعشرات القرى والبلدات. قد تضع المصادفات في طريقك بعض المدنيين هنا وهناك. نسب الدمار متفاوتة بين قرية وأخرى، ما يفتح الباب أمام تخمينات المسافرين: «هذه القرية دخلت في المصالحة»، «هنا دارت معارك عنيفة»، «معركة قصيرة فحسب»... إلخ. يشير السائق إلى الشاحنات المارّة ويقول: «شكلو المعبر مفتوح»، في إشارة إلى معبر أبو الضهور الذي يفصل مناطق سيطرة الدولة السوريّة عن مناطق المجموعات المسلّحة في إدلب. تتفاوت آراء المسافرين في المفاضلة بين هذا الطريق وطريق «خناصر»، قبل أن يطلق أحدهم تعليقاً متفائلاً: «إن شاء الله بعد فترة منصير منسافر من الطريق الأساسي ومنوصل بساعتين زمان» (في إشارة إلى طريق «اللاذقيّة، حلب»).
«سوتشي» لا يمرّ من حلب
يرتبط التفاؤل المذكور باتفاق «سوتشي» الذي ينصّ في بند مهم من بنوده على فتح طريقين حيويين، هما «أوتوستراد حلب، دمشق»، و«أتوستراد حلب، اللاذقيّة». وليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا التفاؤل شديد الإفراط، ولا سيّما أنّ مدينة حلب لا تزال حتى اليوم في مرمى نيران المجموعات المسلّحة، من دون أن تُحدث كل الاتفاقيات (المعلنة وغير المعلنة) فارقاً فعليّاً. وحتى اليوم، ما زالت أحياء عدّة عرضة لقذائف وصواريخ المجموعات التي تسيطر على مناطق عدّة متاخمة للمدينة، وبعضها يشكّل امتداداً لها (مثل ضاحية الراشدين، المجاورة لحي حلب الجديدة). وعرفت المدينة في خلال الأسابيع الماضية أيّاماً ناريّة متفرّقة، شكّل يوم الخميس الماضي (25 تشرين الأول) ذروتها مع نحو خمسين قذيفة وصاروخاً ذكّرت الحلبيين بأيام النّار التي ظنّوا قبل قرابة عامين أنّهم ودّعوها بلا رجعة. «خيو والله شي بيحط العقل بالكف، لإيمت بدنا نضل تحت رحمتهن؟ وين الاتفاقات؟ وين نقاط المراقبة؟ كلو حكي بحكي»، يقول أبو أحمد بلهجة يختلط فيها الغضب باليأس. قبل أربعة أعوام كان الرجل الخمسيني قد افتتح بسطة صغيرة لبيع الأواني المنزلية في حيّ الأعظميّة، تحوّلت اليوم إلى محلٍّ كبير (مُستأجر)، ويستعدّ لافتتاح فرعٍ آخر له في حي سيف الدولة القريب. ليس الرجل سوى واحد من أبناء المدينة الذين أفلحوا في إعادة تدوير عجلة أعمالهم برغم كل الظروف المأسوية التي عاشتها «عاصمة الاقتصاد السوري». يقول مفتخراً: «الحلبي ما بيعرف يعيش بلا شغل»، ويضيف: «حلب قادرة إذا اشتغلت تعيّش كل سوريا، بس بدك ياهن يخلونا نعيش بالأوّل». قبل يومين من حديثنا مع أبو أحمد، كان حيّ الأعظميّة قد نال حصّة كبيرة من القذائف «يعني كأنك يا أبو زيد ما غزيت، كل ما قلنا مشي الحال منكتشف إنو ما في شي مشي»، يقول، ثم يستفيض في سرديّة تتحدّث عن «مظلوميّة المدينة»، ويصبّ جام غضبه بنسب متفاوتة على المجموعات المسلّحة وعلى بعض مخلّفات اللجان الشعبيّة وعلى بعض الجهات الحكومية، قبل أن يتوقف عن الكلام فجأة ويطلب أن ننسى كل ما قاله!
لا أمان!
يقلّ الأمان كلّما توغّلت في المناطق التي خرجت من سيطرة المسلّحين


يتحلّق أبو رشيد واثنان من جيرانه حول طاولة صغيرة وضعها أمام دكانه في حيّ بستان القصر. يبيع الرجل خُضراً وفاكهة وبعض أصناف التوابل والبهارات، لكنّه ينتظر الفرصة المناسبة للعودة إلى مهنته الأساسيّة في تجارة الأدوات الكهربائيّة المنزليّة. قبل الحرب، كان يمتلك مستودعاً كبيراً وبضعة محالّ في حيّ السكّري، قبل أن يخسر كلّ بضائعه ويفرّ بنفسه وعائلته نحو أحد الأحياء الغربيّة. لاحقاً، تفرّق أولاده الذكور (أربعة)، بين تركيّا وبلجيكا وألمانيا، أما هو فاستأجر محلّاً صغيراً قرب بيته المؤقّت المستأجر بدوره. مع عودة الأحياء الشرقية إلى سيطرة الدولة، فكّر في العودة إلى مزاولة تجارته السابقة، لكنّ الظروف لم تكن مواتية، فاستعاض عن ذلك بإعادة تأهيل هذا المحل الصغير الذي يمتلكه أحد أبنائه، ومواصلة العمل المؤقّت بائع خُضر. يقول أبو رشيد إنّ ما يؤخر عودته إلى تجارته الأساسية هو «انعدام الأمان». يقول: «لا تظن إنو الوضع بالسكري منيح متل بستان القصر، هونيك لحد الآن النهب والتشليح ما وقفو». يؤيده جيرانه، ويتعاونون معاً لشرح الصورة، حيث يقلّ الأمان كلّما توغّلت في المناطق التي خرجت من سيطرة المسلّحين، مبتعداً عن «المركز». يقصّ أحدهم حكاية عن سائق سيارة أجرة سلبته عصابة سيارته وماله وهاتفه قبل شهر، فيما يؤكد آخر أنّ عائلة من أقاربه غادرت منزلها في الصباح للقيام بزيارة اجتماعية، وحين عادت مساء اكتشفت أنّ البيت قد تعرّض للسرقة، «ما صرلها القصة شهرين» يقول الرجل. تتضافر قصص أخرى كثيرة في إكمال الصورة التي رسمها الرجال الثلاثة حول ظاهرة «انعدام الأمان». في الأيام القليلة وجدت الظاهرة طريقها أخيراً إلى «السوشال ميديا»، بعد أن وقعت جرائم عدّة في خلال أسبوعين فحسب. ورغم أنّ الجهات الأمنية قد اعتقلت أخيراً اثنين من المتهمين بارتكاب واحدة من تلك الجرائم، فإنّ الأمر قد لا يكون سوى «إبرة بنج (مخدّر)» وفقاً لما يخشاه بعض الحلبيين. «الأمان لا يعني غضّ النظر عن عشرات الزعران لشهور طويلة، ثم المسارعة إلى القبض على واحد أو اثنين منهم مع تأزّم الموقف»، يقول زاهر (اسم مستعار)، ويضيف: «الأمان الحقيقي سيجد طريقه إلى حلب حينَ يُوضَع حدّ لكل المتنفّذين من مخلّفات الحرب، وأذيالهم».