تحية | السياسيون يعرفون بعضهم البعض سماعاً أو مباشرة. عرفت رجاء الناصر عبر السماع أولاً، وهو ما استغرق ثلاثة عقود حتى بداية عام 2008 عندما التقينا مباشرة. لفت نظري وجوده، رغم كونه لم يتجاوز سن الثانية والعشرون، في اللجنة القيادية المصغرة لـ«حزب الاتحاد الاشتراكي العربي» إثر اعتقالات أيار 1968، وذلك في حزب كان يضم آنذاك عشرات الآلاف من الأعضاء، ثم مشاركته الفعالة كعضو في اللجنة المركزية لحزب الاتحاد في معارضة دخول «الجبهة الوطنية التقدمية» في آذار1972 أمام الأمين العام للحزب الدكتور جمال الأتاسي.
وهو ما أسفر عن كفتي ميزان متعادلتين داخل تلك الهيئة القيادية قبل أن يميل الوزن الشخصي للدكتور الأتاسي الكفة لصالح الدخول في تلك الجبهة مع حزب البعث الحاكم. بعد هذا اتجه الناصر نحو تأسيس «التنظيم الشعبي الناصري» بين عامي 1978 و1980، ثم يتركه أيضاً إثر انشقاق عام 1985 قبل أن يعود لصفوف «الاتحاد» في أوائل التسعينيات. كان ملفتاً للنظر عندي قدرة الحركة الناصرية السورية على الانشقاق ثم التلاقي بين كتلها المتباعدة، وهو ما يفتقده الشيوعيون السوريون والبعثيون، فيما يشارك الناصريون، في ذلك، كل من «الإخوان المسلمون» في سوريا و«القوميون السوريون». كان انطباع القياديون في «الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي»، الذين يمثلون الحزب في «التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي هو إطار تحالفي مع «الاتحاد» منذ 1979، بأن الأستاذ رجاء الناصر سياسي متميز من حيث الامكانيات التنظيمية والسياسية، بعد احتكاكهم معه في فترة 2001 - 2003. كان لافتاً بالنسبة لي معارضته لتوقيع حزب «الاتحاد» على وثيقة «اعلان دمشق» في 16 تشرين أول 2005. تعرّفت عليه في اللاذقية في شهر كانون ثاني 2008 عندما أتى ممثلاً لحزبه، لكي يحضر جلسة في بيت الأستاذ فاتح جاموس ضمّت العديد من الأحزاب السورية والشخصيات المستقلة. شكّلت نقطة البدء لمحادثات استغرقت حتى تموز 2010 من أجل تشكيل «الخط الثالث» بين خطي السلطة و«اعلان دمشق». وقد أتت البداية تلك بعد أربعين يوماً من انشقاق «اعلان دمشق» في جلسة 1 كانون أول 2007 بين الليبراليين الجدد «ومعهم اسلاميون وأكراد» وبين الناصريين في «الاتحاد» والماركسيين في حزب «العمل الشيوعي»، ومعهما أكراد في «الحزب اليساري الكردي». خلال تلك السنتين ونصف السنة من الجلسات، التي بلغت الثلاثين تعرفت على الأستاذ رجاء الناصر، وقد لفت نظري براغماتيته، وقدراته التفاوضية، وجمعه بين حدي التصلب والمرونة.
شكلت محادثات «الخط الثالث» النواة لتشكيل «هيئة التنسيق» بعد ثلاثة أشهر من بدء الأزمة السورية. في العمل الديبلوماسي، الذي دخله المعارضون السوريون لأول مرة مع نشوب الأزمة، كان من القلة الذين أتقنوا ذلك المجال الجديد. وفي المفاوضات التي استغرقت سبعة وثلاثون يوماً في القاهرة حتى توقيع اتفاق 30 كانون أول 2011 بين «الهيئة» و«المجلس الوطني» كان متميزاً هو وعبد العزيز الخيّر وهيثم مناع بالقياس إلى مفاوضي «المجلس»، الذي قام مكتبه التنفيذي بعد يوم واحد بنقض توقيع رئيسه برهان غليون.
من خلال الجلسات الشخصية مع رجاء لمست كم هو مسكون بالعروبة وفلسطين وسوريا، وأعرف من خلال هذا لماذا فضّل عيشة الكفاف في مقر الهيئة، الذي كان يسكن فيه، على المغريات المادية التي عرضت عليه في الشهر الأخير من عام 2012 لكي يترك «الهيئة» ودمشق ويصبح مثل الكثيرين من المعارضين السوريين في الخارج، الذين أصبحوا مرتهنين لدول وأجهزة ونمط حياة باذخة بعيداً عن كل ما يجري في بلادنا الجريحة والمتألمة.
* كاتب سوري