الحسكة | تقطع فوزية (42 عاماً) أكثر من ستة كيلومترات سيراً على القدمين من قرية الفلاحة في ريف الحسكة إلى «مدرسة أبي ذر» لإيصال أولادها كل يوم، وتنتظرهم أمام باب المدرسة حتى انتهاء دوامهم لتعاود مسيرها نحو منزلها من جديد. حال فوزية هي حال آلاف من أهالي الحسكة، بعد أن سيطرت «الإدارة الذاتية» على غالبية المدارس، ومنعت تدريس المنهاج الحكومي، وهو ما جعل الأهالي يبحثون عن أي طريقة لإيصال أبنائهم إلى مدرسة تدرّس المنهاج «الممنوع».تزدحم ساحة الرئيس حافظ الأسد وسط المدينة في موعد انصراف الطلاب وبدء الدوام المسائي، حيث يتحرك الطلاب باتجاه أحيائهم باستخدام كل ما تيسّر لهم من شاحنات أو «سرافيس» أو دراجات نارية. هذه الرحلات اليومية من الأحياء باتجاه وسط المدينة، دفعت أبا خالد إلى التخلي عن عمله في الشحن وتجهيز شاحنته بغطاء حماية، لتتحول إلى آلية ينقل فيها يومياً عشرات الطلاب من حيّ غويران باتجاه وسط المدينة.
تقصد ريم، الطالبة في الصف السادس، يومياً «مدرسة إدوار إيواس» في حيّ المحطة، قادمةً من حيّ الناصرة، بعد أن أُغلقت تباعاً ثلاث مدارس كانت تقصدها. تقول الطفلة لـ«الأخبار»: «كلّما أغلقوا مدرسة، انتقلت إلى أخرى... حتى لا أكون جاهلة وأميّة». العديد من الطلاب غادروا مناطقهم التي تسيطر عليها «قوات سوريا الديموقراطية» للالتحاق بمدارس تعلّم المنهاج الحكومي. تشرح المعلمة فاطمة معاناة المعلمين مع تزايد عدد الطلاب: «قبل الحرب لم يكن يزيد عدد الطلاب في الشعبة الواحدة على 40 في أقصى الحالات، وإذا أصبح 41 كنّا نقسمها إلى شعبتين... أما اليوم، فأدرّس 86 طالباً في شعبة واحدة»، وتضيف: «مستقبل جيل كامل بات مهدداً بالضياع، وندرك أن مسؤوليتنا الحفاظ عليه».
بلغ عدد المتسربين من التعليم 161600 طالب


هذه المشاهدات جزءٌ يسير ممّا تعيشه مدينة الحسكة من أزمة حقيقية، في ظل تقلُّص عدد المدارس التي تديرها الحكومة بعد سيطرة «الإدارة الذاتية» على المدارس الثانوية هذا العام. إذ فرضت الأخيرة منهاجاً مغايراً للمعتمد من قبل وزارة التربية بشكل تدريجي، من خلال فرض دروس باللغة الكردية للطلاب الأكراد في نهاية عام 2012، قبل أن تطبق منهاجاً خاصاً بها من الصف الأول إلى الخامس في عام 2013، وحتى الثامن في عام 2015. وفي العام الماضي أدخلت منهاجاً مغايراً حتى الصف التاسع وطبقته هذا العام على طلاب الصف العاشر. وسبّب فرض هذه المناهج حركة تسرّب كبيرة بين الطلاب. وتدنى عدد المدارس التي تديرها مديرية التربية الحكومية إلى 407 العام الفائت من أصل 2423 مدرسة، فيما بلغ عدد المتسربين من التعليم 161600 طالب، وهي أرقام مرشحة للارتفاع هذا العام.

لا مستقبل لمنهاج «الإدارة الذاتية»
بينما تقف مريم مع باقي الأهالي أمام أبواب «مدرسة أبي ذر» في انتظار طفليها، تقول: «آتي يومياً من حيّ العزيزية لتأمين التعليم لأطفالي... لا أثق بمنهاج غير منهاج الحكومة السورية، فلا مستقبل أبداً إلا له». يوافقها خالد بالقول إن «منهاج الإدارة الذاتية غير معترف به محلياً ولا دولياً، لذلك لن أورّط أبنائي بدراسته، حتى ولو اضطررت إلى السفر إلى محافظة أخرى، لأضمن مستقبلهم». ورغم انخفاض عدد المدارس التي تديرها الحكومة في أحياء قليلة في مدينتي القامشلي والحسكة، وبعض القرى في ريفي المدينتين، اتخذت مديرية التربية الحكومية إجراءات لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب، ومنح الطلاب غير القادرين على الوصول إلى المدارس الحكومية، طرقاً أخرى للتعلّم. وتشرح مديرة التربية في الحسكة، إلهام صورخان، في حديث إلى «الأخبار»، قائلة: «ركّبنا غرفاً مسبقة الصنع في باحات المدارس، وحوّلنا بعض المباني الحكومية إلى مدارس، وزدنا عدد المقاعد الصفيّة في الصف الواحد، وحوّلنا كافة المدارس إلى دوامين، صباحي ومسائي، في إجراءات لاستيعاب الطلاب». وتضيف: «أكثر من 100 ألف طالب يدرسون في المدارس الحكومية، رغم ضيق الأماكن وقلة عدد المدارس». ولمحاولة استيعاب مشكلة عدم قدرة الطلاب على الوصول إلى المدارس، تقول صورخان: «اعتُمِد منهاج (الفئة ب)، بالإضافة إلى منهاج التعلّم الذاتي، وحُوِّل بعض المنازل إلى مدارس، في محاولة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من الطلاب».

عودة ناقصة للمدارس الخاصة
بعد موجة الاحتجاجات التي قام بها أهالي مدينة القامشلي ضد قرار فرض مناهج «الإدارة الذاتية» على المدارس الخاصّة، وجولة مفاوضات قادها مطارنة الكنائس، أعادت المدارس الخاصّة بالكنائس افتتاح أبوابها، بعد الاتفاق على تدريس حصة يومية باللغة السريانية، والتعهد بعدم استقبال أي طالب كردي، فيما بقيت مدرستا «البر» و«نسائم البر» الخاصتان مغلقتين، ولم يشملهما أي اتفاق. ويكشف المطران بهنان هندو، مطران الجزيرة والفرات للسريان الكاثوليك، في حديث إلى «الأخبار» أن «الاتفاق مع الإدارة الذاتية هش، لأنه شفهي، إذ لم يكن هناك أي اتفاق مكتوب، ما يترك المجال أمام إمكانية تنصلها منه مستقبلاً». وأكد هندو أنْ «لا استقرار حتى الآن في المدارس الخاصة، التي تنتظر اتفاقاً مكتوباً يكون ضامناً لاستمرار التعليم الحكومي فيها».