لم يعد الحديث عن محدودية نتائج الاعتداءات الإسرائيلية على تعاظم قدرات حزب الله مجرد تقدير يمكن استخلاصه فقط من كلام القادة الإسرائيليين على نحو الإجمال، بل أتت مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في ما يتعلق بامتلاك صواريخ دقيقة، عن أن «الأمر أنجز»، لتمثّل كشفاً عن النتائج الكلية لمفاعيل الضربات التي ينفذها كيان العدو في الساحة السورية. والمؤكد أن كلام نصر الله سيحضر بقوة لدى المؤسستين الامنية والسياسية، وستكون له مفاعيل عميقة جداً في وعيهم وحساباتهم لدى دراسة خياراتهم المستقبلية.أتى الكشف عن فشل محاولات إسرائيل قطع الطريق على إمداد حزب الله بالصواريخ، بالتزامن مع الاعتداءين الأخيرين، في مطار دمشق واللاذقية، اللذين يأتيان امتداداً لسلسلة الاعتداءات العسكرية المباشرة على الساحة السورية المستمرة منذ سنوات، والتي كانت تستهدف عمليات نقل الاسلحة النوعية إلى لبنان، قبل أن تتحوّل الى استهداف عمليات بناء القدرات الصاروخية على الساحة السورية.
مع ذلك، تتّسم هذه الاعتداءات، وما سبقها، بكونها تأتي بعد استنفاد الرهان الإسرائيلي ـــ الذي ساد المرحلة السابقة ـــ على إمكان تحقيق إنجاز سياسي نوعي من خلال البوابة الروسية، يتصل بكبح تعاظم قدرات محور المقاومة في سوريا وعبرها في لبنان. مع ذلك، فإن محدودية خيارات إسرائيل، والمخاطر الكامنة فيها، تفرض عليها استمرار التواصل وتعزيز العلاقات مع روسيا، باعتبارها البوابة الإلزامية لأي ترتيب سياسي أمني ما على الساحة السورية.
أهمية مواقف نصر الله تنبع من كونها تسلط الضوء على فعالية الخيار العملياتي العدواني الذي تمارسه في سوريا. وهو ما يدفع إلى ضرورة التمييز بين القدرة على تنفيذ الاعتداءات، وفعاليتها في تحقيق الأهداف العسكرية والاستراتيجية. وهذا الأمر بدا أنه حاضر في وعي القيادات الإسرائيلية، ومن ضمن من لفت اليه الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، أمان، ورئيس معهد أبحاث الامن القومي اللواء عاموس يادلين بالقول «ليس المهم عدد عمليات القصف ولا عدد الغارات... بل المهم هو قياس التأثير الاستراتيجي، وهل يسهم ذلك في تأجيل الحرب».
على هذا الصعيد، يمكن الحديث عن مستويين. الأول يتصل بالنتائج العسكرية التكتيكية لكل اعتداء بذاته، وهو أمر غير متاح معرفته بالتفصيل، لأن كافة الاطراف المعنيين لا يكشفون عن ذلك، كونه يندرج ضمن المعركة السرية التي يخوضها الاطراف. لكنّ كشف نصر الله، أجمَلَ نتائجها في ما كشفه عن الصواريخ الدقيقة. والثاني، يتصل بالهدف الاستراتيجي، المتصل بمنع إعادة بناء القدرات الصاروخية السورية وتطويرها، وإخراج إيران وحلفائها من سوريا.
الملفت أن القيادات الاسرائيلية تدرك أن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي المعلن بعيد جداً عن إمكان التحقق، في ضوء معادلات القوة والظروف السياسية الحالية. ومن أبرز من يقرّون بذلك نتنياهو نفسه، الذي أعلن قبل أسابيع، أمام جلسة الحكومة، أن إخراج إيران من سوريا هو مسار طويل. وهو ما يعني إقراراً مباشراً بمحدودية فعالية هذه السياسة العملياتية التي تتبعها إسرائيل، وأيضاً بمحدودية فعالية الرهان الإسرائيلي على القوى الدولية، موسكو وواشنطن.
مع ذلك، يلاحظ أن هناك اصراراً إسرائيلياً كبيراً على مواصلة هذه الاعتداءات، رغم ما تنطوي عليه من مخاطر، والسبب يعود الى تقديرها أن هذا الخيار العملياتي يندرج ضمن المستوى المتاح، الذي لو تخلّت عنه فإن ذلك سيمس بمكانتها الاستراتيجية، ويُضعف حضورها وتأثيرها في موسكو، وحتى في واشنطن، بمعنى من المعاني، أضف إلى أن الخيارات البديلة الماثلة أمامها كلها تنطوي على كلفة باهظة جداً، وفق الحسابات الاسرائيلية. كل ذلك يدفع صانع القرار في تل أبيب إلى التمسك بهذه الاستراتيجية العدوانية، ليس انطلاقاً من أنها تحقق الأهداف المؤملة منها، وفق الوتيرة التي تتم بها، بل لأن البديل منها أكثر خطورة.
في ظل هذه المعادلات، وجدت إسرائيل نفسها متروكة في هذه المرحلة لما تستطيع أن تحققه ـــ فقط ـــ في الميدان. وبالتالي فإن ما قامت وتقوم به من اعتداءات تحت عنوان «المعركة بين الحروب»، هو «الحرب» التي تستطيع شنّها في المرحلة الحالية، وإن بوتيرة مختلفة من فترة إلى أخرى، بفعل قيود القوة والمعادلات التي تحكم حركة الصراع، على قاعدة «ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه».
تبقى كلمة تتصل باعتداء اللاذقية، أن خصوصيته لا تنبع من كونه تسبب في سقوط الطائرة الروسية، بل قبل ذلك، لكون ساحته تأتي ضمن المدى الحيوي المباشر للقوات الروسية، وهو معطى غير مفاجئ، لكنه ينطوي على مؤشر عملي، وهو أن شنّ الاعتداءات ضمن هذا المدى لا يتعارض أيضاً مع سقف التنسيق الروسي الإسرائيلي الذي يتفادى كل منهما المسّ بمصالح الآخر.
في المقابل، إن عدم تحوّل سقوط هذه الخسائر البشرية المؤلمة للطرف الروسي إلى محطة مفصلية في المقاربة الروسية، وهو أمر مفهوم ومتوقع، ينطوي أيضاً على مؤشرات كاشفة تتصل بمعادلات الحاضر وبمستقبل التطورات على الساحة السورية... وتتجلى من خلاله بشكل أوضح شبكة تعقيدات المشهد السوري والاقليمي، وتحديداً ما يتصل بتموضع الطرف الروسي الذي يتقاطع مع محور المقاومة، ليشكّلوا معاً محور مكافحة الارهاب التكفيري، وفي الوقت نفسه يتموضع في مكان ما بين طرفي الصراع، الكيان الإسرائيلي ومحور المقاومة.