تجلس أم علي على شرفة منزلها في قرية طرنجة (ريف القنيطرة الشّمالي) منتظرة عودة أقاربها بعد سنوات من الفراق. في خلال السنوات الست الماضية، لم تُغادر أم علي قريتها سوى مرات قليلةً، معظمها للعلاج. أمّا زوجها فلم يخرج منها على الإطلاق. لم يكن أبو علي (74 سنة، موظف متقاعد) يملك الكثير من الخيارات في حال قرر المغادرة. كان قد خطّط لقضاء سنوات عمره الأخيرة بهدوء في طرنجة، لكنه لم يكن يتوقع أن الحياة تُخبّئ للبلاد سنواتٍ من الحرب. يقول أبو علي «عام 1967 عرفت النزوح أول مرة حين نزحنا من قرية جباثا الزيت، لكن طعمه لم يكن بمرارة ما حدث هنا». ترتب أم علي أوعية المربى واللبنة، وتقول في الأثناء «هذه السنة سيأكل أصحاب هذه المرطبانات من نتاج أراضيهم». في كل عام، كانت السيدة تصنع مربّيات التين والكرز والتفاح، وتخبئ لكل عائلة حصتها: إخوتها الشبان وعائلاتهم وأخواتها البنات. على امتداد ست سنوات، كانت النسوة في كلّ ربيع تدلق الحليب في الطرقات لعدم وجود سوق لتصريفه. وظلّت أم علي حريصةً على إعداد اللبنة والجبنة وتخزينها، على أمل أن يفتح الطريق ويأتي إخوتها «لأخذ المونة».
«وصمة عار»
بالتزامن مع عودة المناطق إلى سيطرة الجيش، أحرق عدد من الأهالي منتجاتٍ «إسرائيليّة الصنع» كانوا قد تسلّموها من المجموعات المسلّحة، فقد بات بمقدورهم التحرك بأريحيّة لشراء احتياجاتهم. تقول أم خالد (من سكان قرية الحرية): «كنا نخشى أن تطول المعارك ونفقد الطحين وباقي المواد الغذائيّة، ولا سيّما في ظل وجود عدد كبير من الأطفال والنساء والمسنّين. حاولنا أن نتحاشى ما حصل، لكّن كثيراً منا اضطرّوا في نهاية المطاف إلى تسلّم الطحين والمعلبات الإسرائيليّة». تقول السيدة إنّ «كثيراً من العائلات فقدت أي مصدر للعيش، وبات مصيرها مرهوناً بمشيئة الفصائل المسلحة التي كانت تتحكم بالمنطقة». وتضيف «أحياناً كنا نسافر إلى درعا لشراء احتياجاتنا وبيع قسم من منتجات أرضنا، لكن هذا لم يكن أمراً سهلاً بسبب خطورة الطريق الذي كان يتم استهدافه بشكل يومي». توضح أم خالد أنّ السفر إلى دمشق كان أصعب «يستغرق خمس ساعات على الأقل، وأحيانا كانت تكلفة سفر الشخص الواحد تتجاوز العشرة آلاف ليرة سورية». كان «قادة المجموعات المسلّحة» يُشاركون المزارعين في واردات أراضيهم، يتحمّل المزارعون تكاليف الزراعة والحصاد والقطاف ومشاقها، ثمّ يقوم المسلّحون ببيع المحاصيل إلى «تجار درعا» فيأخذون نصف العائدات، ويعطون المزارعين نصفها الآخر. تقول أم خالد «تراجعت زراعتنا للقمح والعدس والخضروات، ولم نكن نتمكن من قطف الزيتون والكرز، وفي بعض المواسم كنا نفضل ألا نقطفها كي لا يأخذوها هم».
أحرق عدد من الأهالي منتجاتٍ «إسرائيليّة الصنع» تسلّموها من المسلحين


يفضل أبو المجد عدم ذكر اسمه الحقيقي. يقول لـ«الأخبار»: «لا يمكننا الهروب من الواقع الذي كان سائداً في منطقتنا. واقع كان ليشبه باقي المناطق السورية، لولا تدخل العدو الإسرائيلي بأشكال كثيرة، ما جعل الحمل ثقيلاً على كاهل أبناء المنطقة». يشير أبو المجد إلى أنّ «كثيراً من أبناء القنيطرة واجهوا العدو الإسرائيلي ودافعوا عن أراضيهم في السنوات الماضية». ويضيف «نخشى من وصمة العار التي ستلاحق أبناءنا بلا ذنب سوى أن بعض الجهلة تعاونوا مع الكيان المحتل». يؤكد الرجل الذي نزح في سنوات الحرب أنّ «بعض الأهالي كانوا مجبرين على التعامل مع المسلحين والامتثال لأوامرهم لأنهم كانوا بمثابة سلطة أمر واقع». ويضيف «كانوا يراسلوننا ويقولون إنهم غير راضين عن تقديم الطعام والملابس والأدوية من العدو الإسرائيلي، وبعضهم اصطدم مع متزعمي المسلّحين الذين هرب معظمهم إلى الجولان المحتل مع بداية عمليات الجيش في المنطقة».

«ولدت هناك»
تتلعثم مريم عندما يسألها العائدون إلى القرية عن مكان ولادة طفلها الذي لم يكمل عامه الأول بعد. تُخفي حقيقةَ أن ولادتها العسيرة حصلت داخل الشريط الحدودي المحتل. تدّعي بدلاً من ذلك أنها ولدت في درعا التي كانت خلال السنوات الماضية المتنفس الوحيد لأهالي القطاعين الشمالي والجنوبي من القنيطرة. حملت مريم (26 سنة) مرّات عدّة، و«نتيجة الوضع غير المستقر وعدم وجود أطباء وطبيبات إلا في دمشق أو درعا كنت أخسر حملي كلّ مرة». وتضيف «في المرة الأخيرة، لم يكن لديّ خيار سوى الولادة داخل الأراضي المحتلة». تقول مريم «أدرك أن ما قمت به لم يكن مستحسناً، لكن الظروف فرضت ذلك الحل»، وتضيف «مع وصول الجيش، عملت أوراق للمصالحة الوطنية».

«ناطرين الفرح»
حزمت ريم حقائبها منذ اليوم الأول الذي بدأت تتسرب فيه أخبار التسوية في ريف القنيطرة الشمالي. تقول «عرفت أن الأمر انتهى وأننا سنعود قريباً». يتملّك القلق الصبيّة العشرينيّة «من المواجهات التي قد تحصل بين الأهالي». تشرح الطالبة في كلية الاقتصاد أسباب القلق. «كلّ من العائلات فقدت شيئاً: قريباً، أو منزلاً أو عملاً. قد يختلف حجم هذا الفقد، لكنه في النهاية خسارة». وتضيف «مع كلّ هدنة كانت تُعقد، كنا نعود إلى بيتنا لنجد شيئاً من محتوياته قد اختفى، أو بالأحرى سُرق. لم يكن هناك غرباء كثر في القرية، والمعنى واضح. يجب إجراء مكاشفات كثيرة كي تصفو القلوب». لكن الأهم اليوم «أن نعود إلى بيتنا. تعبنا من الإيجارات والتنقل بين بيوت لا ننتمي إليها» تقول الفتاة.
رُفع العلم السوري أخيراً في عدد من القرى الجولانية. سُمح للأهالي بالعودة إلى قرى طرنجة وجباتا الخشب وبريقة وبئر عجم، وكان المشهد في أول أيام العودة «يشبه أيام العيد». جزء من المنازل تضرر كثيراً، وجزء آخر تعرض لـ«التعفيش». فيما ينتظر عدد من الأهالي انتظام الخدمات من كهرباء وماء ومدارس كي يعودوا إلى منازلهم.