تتعالى صيحات للمطالبة بالزواج المدني الاختياري في سوريا، تزامناً مع طرح سياسي لدستور جديد وفق تسوية مرتقبة. وتتناسب هذه الصيحات مع ازدياد حالات الزواج المختلط العابر للطوائف، خلال العامين الأخيرين بشكل لافت، ما يعزوه البعض إلى «خلخلة» اجتاحت مجتمع ما بعد الحرب. ومن أهم ما يميّز هذا المجتمع، وفق هؤلاء، الخروج عن عادات وتقاليد لا تناسب «منطق» الأجيال المتعاقبة، كتلك الهزّات الاجتماعية التي أصابت السوريين وأسرهم في بلدان اللجوء مثلاً. سوريو الداخل أيضاً لهم هواجسهم الاجتماعية، رغم التقييد القانوني الصارم، والبرود التشريعي حيال متطلباتهم.عاودت صرخة الزواج المدني الاختياري حضورها على الساحة السورية، الشهر الفائت، مع طرح خجول لنواب كتلة الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذين دعوا وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد إلى مناظرة تحت قبة البرلمان حول الزواج المدني الاختياري. لم تترتب نتائج عن هذا الطرح «الغريب». ولعل أصحابه يعرفون النتيجة مسبقاً، غير أن واجباتهم الحزبية والفكرية والبرلمانية اقتضت منهم شرف المحاولة. وفي موازاة الدعوة إلى المناظرة الموعودة، واكبت منصات التواصل الاجتماعي التسويق للزواج المدني، عبر طرح الموضوع للاستفتاء ونشر مسوَّدة قانون الزواج المدني، بهدف طرحها على مجلس الشعب، بعد تبنيها من قبل عدد من النواب. القيّمون على المبادرة بالاشتراك مع الكثير من المناضلين في سبيل إقرار هذا القانون يعون جيداً أن الطريق إلى تشريع الزواج المدني طويل، وذلك استناداً إلى الصدام الدائم مع أصحاب الفكر الديني، ومن بينهم القاضي الشرعي الأول محمود المعراوي، الذي صدم الشعب السوري سابقاً بتصريح صارخ، حين اعتبر، بما يمثله من مكانة دينية ورسمية، الزواج المدني «زنا»... فيما يرى محامون سوريون أن الزواج المدني الاختياري غير مخالف للدستور، وإن بدا متعارضاً مع الفقه الإسلامي، رغم احتمالات الاجتهاد والتأويل التي قد تأتي بحلول مرنة تقنع الجميع.

شجاعة وخوف... في آن واحد!
على امتداد سنوات الحرب التي هدمت المنازل وحطّمت النفوس، بقي المزاج الشعبي محافظاً في مناطق واسعة من البلاد، ولا سيما في ما يخص قضايا المرأة والزواج المدني. الأمر الذي جعل عملية البحث عن حالات الزواج المختلط دينياً مهمة صعبة، وسط رفض البعض الحديث عن تجاربهم الشخصية، لدوافع تتعلق بخطر قانوني أو نفسي أو اجتماعي. فيما قبل عدد من «فدائيي» الزواج المختلط الحديث، من غير نشر أسمائهم.
يرى محامون أن الزواج المدني الاختياري غير مخالف للدستور

وتتشابه إجاباتهم عن السؤال المتكرر المتعلق بشجاعتهم، حين أقدموا على التحدي الاجتماعي والقانوني، في إجراءات زواجهم، رافضين الإذعان لفكرة تغيير ديانة الزوج، وإلزامه باعتناق الإسلام قبيل زواجه بـ«مسلمة»، وفق القانون السوري. الإجابات شدّدت على إيمانهم بالتغيير وقناعتهم بفكرة حرية الاختلاف، غير أن «الفكرة السامية» لا تكفي وحدها لحماية المواطنين من قوانين إقامة الحد، في بلاد تغلّفها العلمانية ظاهرياً. وهذا ما يفسّر شجاعة هؤلاء وخوفهم في آن واحد، عندما يتعلق الأمر بمشاركة تجاربهم الجريئة مع الآخرين.

لا مكاسب علمانية
نقاش بسيط في مجلس الشعب للقيام بأي تعديل قانوني لمصلحة القوى العلمانية، يكاد يكون كافياً للتذكير الدائم بأساس القانون السوري القائم على الشرع الإسلامي، كدولة تدين بالإسلام وفق المذهب الحنفي، بما لا يشكّل أي لبس، حتى وإن سيطر حزب البعث، بعلمانيته، على حكم البلاد طوال عشرات السنوات. وهذا ما يعززه قول وجدي، أحد المتزوجين مدنياً خارج البلاد، إذ يوضح الشاب الثلاثيني أن رفضه الكشف عن شخصيته الحقيقية، يعود لكونه لا يريد أن يبدو محرجاً، باعتباره مؤيداً للنظام، غير أن لديه شخصياً «ما يدين هذا النظام الذي يهادن الإسلاميين باستمرار، ويرفض إحداث أي تغيير حقيقي قد يثير حفيظة المتدينين». ويضيف: «قاتلنا مع السلطة لمواجهة المد التكفيري الذي ينهك البلاد. ولكن ذلك لم يكن كافياً لنيل ما نستحقه من قوانين وتشريعات تكفل لنا حقوقنا في الاختلاف والاختيار وأساليب العيش». المشاركة في الحرب لم تجعل وجدي ورفاقه يحصدون نتيجة مشرّفة في ما يخص الاعتراف باختلافهم، وهو أمر ينعكس على كل المتنوّرين، بحسب تعبيره.

التغيير قادم!
يُعَدّ غياب قانون موحّد لمحاكم الأحوال المدنية ثغرة بيّنة في القانون السوري وسط ظروف مراعاة الأقليات الدينية في أمور الزواج والطلاق. القانون ذاته سمح للطائفة الدرزية بإقامة المحاكم الشرعية الخاصة، خلال مرحلة سابقة حملت غزلاً ما بين السلطة ورجال دين هذه الطائفة، ما شكّل جدار فصل آخر بين المواطنين السوريين. وعليه، فقد أعلنت غالية (اسم مستعار) عدم قدرتها على العيش داخل البلاد، إن لم يتغير الوضع نحو الاعتراف بالآخر المختلف دينياً، ضمن قوانين الزواج. المرأة الحاصلة على الدكتوراه في الصيدلة من ألمانيا، عاشت قصة حُب استمرت 8 سنوات، مع زميل لها من مدينة السويداء. رفض الأهل المتكرر، وعدم إمكان الاعتراف بزواجهما وفق القانون، أفضى إلى زواجهما أخيراً في الخارج، ما أدى إلى وقوع القطيعة مع الأهل. الحديث عن الأمر يدخل في نفس المرأة أسى ونقمة، إذ بدت تحمل على القوانين المتبعة في بلادها، وغير قادرة على العودة إلى العيش في ظلها. وأكثر ما يزعجها في الأمر أن لا مراعاة لنضجها العمري ومركزها العلمي وتحصيلها العالي. وتنتظر غالية، كما المئات ممن خاضوا التجربة ذاتها، على الأقل، انتزاع قرار تثبيت الزواج في المحاكم السورية، في حال حدوثه خارج البلاد، أسوةً بدول مجاورة ليست أفضل حالاً من الناحية القانونية عموماً، كلبنان مثلاً. أما رنيم، فهي تلفت إلى أن قصة زواجها برجل مسيحي جرت تحت عيون المعنيين في الأحوال المدنية، إذ انتظرت حملها لرفع دعوة قضائية لتثبيت الزواج على حاله، تحت ذريعة عدم معرفتها بانتمائه الديني قبل قيامها بالعلاقة معه. تبتسم ساخرة وتقول: «قمنا بالزواج في الخارج، قبل أن نعود إلى البلاد ونحتفل مع عائلتينا وأصدقائنا في مراسم راقية وهادئة. انتظرت حملي لنقوم بهذه الحيلة القانونية». وتضيف: «الحمل يسمح بتثبيت الزواج على واقعه. إنهم يحبون التحايل والكذب، ويفرضون علينا أن نتعامل معهم على هذا الأساس. ونحنا بدنا نعيش». ومع صدمة الحرب وما أنتجته من اختلاط بين فئات الشعب ومناطقه، بحكم النزوح، فإن كثرة الحالات المشابهة لتجربة رنيم توحي بأن التغيير قادم. يبقى أن يوقف المشرّع مكابرته للتأقلم مع مقتضيات الواقع.