باتت «دولة الخلافة» في سوريا والعراق جزءاً من الماضي. لكنّ خسارة الجغرافيا لا تعني أنّ تنظيم «داعش» قد خرج من المشهد «الجهادي» العالمي، وهي في الوقت نفسه لا تضمن تخلّي «الجهاديين» عن حلم «إعلاء راية الخلافة» من جديد. الفكرة التي وُلدت مع ولادة جماعة الإخوان عام 1928 وجدت طريقها إلى التطبيق في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي، قبل أن تخرج في نسخة أشدّ توحشّاً على يد «داعش». أين ستولد النسخة المقبلة وعلى يد من؟ هذا هو السؤال الأهم اليوم.
تصميم سنان عيسى | انقر الصورة للتكبير

حلّت أمس الذكرى السنويّة الرابعة لإعلان تنظيم «داعش» إقامة «الخلافة». معطياتٌ كثيرةٌ تبدّلت بين حزيران 2015 واليوم، على رأسها أنّ «البعبع» لم يعد متحكّماً بمساحات شاسعة من الجغرافيا، واقتصر وجوده على بقعٍ صغيرة في سوريا، كما في العراق. وعلى امتداد السنوات الأربع من عمر «الخلافة» دفع البلدان أكلافاً باهظةً من دمٍ ونزفٍ اقتصادي وعسكري وديموغرافيّ وجغرافي. سوريّاً، لم يعد اندحار «دولة الخلافة» البائدة على الأرض بالأمور إلى ما كانت عليه قبل خروج «داعش» من «القمقم» إبّان وصول «الربيع العربي» إلى البلاد. وعلى رغم نجاح الجيش السوري وحلفائه في إعادة كثير من مناطق سيطرة التنظيم السابقة إلى كنف الدولة السوريّة، فإنّ جهاتٍ أخرى «ورثت» نصيباً من تركة التنظيم المتطرّف. سلكت الولايات المتحدة طريقاً معبّداً بدماء السوريين لتُنشئ قواعد ومطارات عسكريّة يتمركز معظمها شمال وشرق الفرات، وتضاف إليها «قاعدة التنف» جنوب شرقي البلاد. كذلك؛ تفرض واشنطن هيمنتها في شكل غير مباشر على مساحة تقارب ربع مساحة البلاد، هي مناطق سيطرة «قوّات سوريا الديموقراطيّة». وعلى نحو مماثل أفلحت أنقرة في اقتفاء خطى «داعش» بذريعة «محاربة الإرهاب»، فأوجدت لها موطئ قدم سرعان ما «تمدّد» لتناهز مساحة الأراضي السورية التي تحتلّها تركيّا عشرة آلاف كيلومتر مربّع (4800 كلم مساحة لواء إسكندرون، وحوالى 5000 كلم ما بين مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون»). تضاف إليها «نقاط المراقبة» التركيّة التي ضمنتها اتفاقات «أستانا» في محافظتَي إدلب وحلب. تحوّلات الخريطة السوريّة لم تكن الانعكاس الوحيد لرحلتي «صعود وهبوط داعش»، بل تضاف إليها تطورات مهمة لحقت بمشهد الجماعات «الجهاديّة» في العالم بأسره.
تبعت لـ«دولة الخلافة» في أوج قوّتها خمس وثلاثون «ولاية»

وعلى رغم خسارته معاقله تباعاً وتحوّل سيطرته على الأرض إلى وجود هامشيّ، ما زالت «الخلافة» حاضرةً في أدبيّات «داعش» بصفتها «وعداً دنيويّاً» مستمرّاً ولو «احتُلّت» أراضيها. ومنذ تهاوي مناطق سيطرته المؤثّرة، دأبت المنصّات الإعلاميّة التّابعة للتنظيم على المزاوجة بين مصطَلحي «جنود الدولة الإسلاميّة» و«جنود الخلافة» لدى الحديث عن «جهادييه» وعمليّاتهم المستمرّة. وكفلت «السنوات الذهبيّة» للتنظيم تحصيل «بيعات» في مناطق مختلفة من العالم، سرعان ما تحوّلت إلى أدوات لتنفيذ عمليّاته الإرهابيّة المستمرّة من دون أن يؤثّر سقوط «الخلافة المركزيّة» في وتيرتها. ووفقاً لصحيفة «النبأ» التابعة للتنظيم، فقد نفّذت خلاياه ثماني هجمات وتفجيرات في «شرق آسيا» خلال شهر رمضان وحده، علاوة على هجمات أخرى في كلّ من ليبيا والعراق وسوريا وأفغانستان. ولم يقلّل انهيار «الخلافة» من قدرة التنظيم على أن يكون «مصدر إلهام لهجمات على أهداف غربية من خلال الإنترنت»، وفقاً لما أكّده مسؤولون في الأمن القومي الأميركي أمام مجلس الشيوخ أواخر العام الماضي. وحرص المسؤولون وقتها على تأكيد أنّ «القضاء على الخلافة المادية لا يمثل نهاية تنظيم داعش أو جماعات إرهابية عالمية أخرى». وعلى رغم صواب هذه التحذيرات، فإنّ النظر إلى هدف تلك التحذيرات بعين الريبة واجبٌ استناداً إلى التاريخ الأميركي الحافل في خلق البؤر المتطرّفة وجني ثمار ازدهارها ومن ثمّ ثمار «محاربتها».

تصميم سنان عيسى

ولا تشذّ «خلافة داعش» عن هذا المسار، بل هي تدين لواشنطن بالفضل في تفصيلين أساسيين: الأول نشوء نواة التنظيم (قبل الحرب السوريّة بأعوام طويلة) في كنف الفوضى التي ازدهرت في العراق إبّان الاحتلال الأميركي. أما التفصيل الثاني، فهو فكرة إعلان «الخلافة» التي استلهمها أبو بكر البغدادي من «خليفة» سبقه إلى إعلانها في أفغانستان. وعلى رغم عدم شيوع هذه المعلومة على نطاق واسع، فالثّابت أنّ البغدادي دُعي عام 2013 إلى «مبايعة الخليفة» أبو عيسى الرفاعي (محمد بن عيسى، أردنيّ فلسطيني). وكان الأخير قد نُصّب «خليفةً» في بيشاور (أفغانستان) في تسعينات القرن الماضي. توفي الرفاعي في آذار 2014، وعقب وفاته بثلاثة أشهر بادر البغدادي إلى إعلان نفسه «خليفةً»، مستنداً إلى فائض القوّة الذي حصّله تنظيمه عسكريّاً واقتصاديّاً وإعلاميّاً و«جهاديّاً». وتوحي معطيات العام الحالي بأنّ «الخلافة» قد دخلت طور «التربّص» على الأرجح. وفي كسرٍ للتقليد الذي انتهجه التنظيم خلال السنوات الماضية، مرّت ذكرى «إعلان الخلافة» هذا العام بصمت ومن دون «تفجيراتٍ احتفاليّة» أو عمليّات من أي نوع. ومن المستبعد أن يؤشّر هذا على تسليم التنظيم المتطرّف بالأمر الواقع، والأقرب إلى الصواب أنّ «داعش» على أعتاب مرحلة جديدة يؤسّس فيها لـ«انبعاثه» في جغرافيا جديدة، لا سيّما في ظل الغموض الذي يكتنف مصير عدد كبير من «جهادييه» (راجع «الأخبار»، 4 كانون الثاني 2018).
وتبعت لـ«دولة الخلافة» في أوج قوّتها خمس وثلاثون «ولاية» تسع عشرة منها في العراق وسوريا (خسر معظمها في العام الأخير). علاوة على ست عشرة «ولاية» أخرى موزّعة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا (القوقاز) هي «برقة، طرابلس، فزان، الجزائر، غرب أفريقيا، اللواء الأخضر، خراسان، القوقاز، عدن، أبين، شبوة، حضرموت، صنعاء، البيضاء». وقدّمت تجربة السنوات الأربع «نموذجاً» ألهب حماسة الآلاف من «الجهاديين» الجدد الذين انضموا إلى التنظيم وغيره من التنظيمات المماثلة قادمين من كل جهات الأرض. كذلك استلهم التنظيم تجارب نظرائه السابقة في أفغانستان، فأنشأ «معسكرات أشبال الخلافة» التي حوّلت آلاف الأطفال إلى قنابل «جهاديّة» موقوتة تنتظر «الرعاة» لإشعال فتيل الجولة المقبلة.