تقول مصادر سورية متابعة إن المرحلة الأخيرة من التفاهم بين موسكو وواشنطن كانت قد نضجت منذ الخميس الماضي. بعثت وزارة الخارجية الأميركية برسالتها الأولى إلى فصائل المعارضة الجنوبية المسلحة يومها، والتي تضمنت نصيحة بعدم استفزاز الجيش السوري، وبالتوازي كان المندوب الروسي في مجموعة «التاسك فورس» في جنيف العقيد يوري تازارف وفريقه الدبلوماسي يضعان في النهار نفسه مع الدبلوماسي الأميركي برايم غرين وفريقه، على ما قالت المصادر السورية إنه اللمسات الأخيرة للتفاهم الذي لم تعرف تفاصيله، لكن نتائجه بدأت بالظهور على الأرض.التفاهم يسهل لقوات العقيد سهيل الحسن أن تكرر في درعا وريف السويداء في الأسابيع المقبلة ما قامت به في الغوطة الشرقية، في سياق تحقيق هدف مركزي وهو إسقاط آخر معاقل المعارضة المسلحة التي تهدد العاصمة دمشق منذ عام ٢٠١١، والتي شكلت على الدوام عنصر الرهان لدى أميركا وإسرائيل والأردن والسعودية، وحيث لا تزال المعارضة تحتفظ هناك بنحو 15 ألف مقاتل في مواقع تبعد أقل من ثمانين كيلومتراً عن دمشق.
بيّنت الرسالة الأميركية الأولى لفصائل الجنوب، يوم الخميس الماضي، أن واشنطن لم تضعهم في صورة التفاهمات مع الروس. وبديهي أن واشنطن كانت في طريقها للتخلي عنهم على مرحلتين. الرسالة الاولى قالت إنها «تحاول الحفاظ على وقف إطلاق النار، على أن يتجنّبوا استفزاز الجيش السوري». كانت العملية الروسية السورية في الجنوب المشتركة تتّسع، حتى قبل أن يجف حبر الرسالة الأميركية.
أما الرسالة الثانية، فقد وصلت في الوقت الذي كانت طائرات «سوخوي» الروسية قد أنهت نهارها الاول من الغارات على بصر الحرير ومعاقل المعارضة شرق درعا، من دون أن تتحرك وزارة الخارجية الاميركية. الرسالة تسلمها باليد ممثلو فصائل حوران والقنيطرة المسلحة في السفارة الأميركية في عمان، مرفقة بنصيحة تفيد بألا ينتظروا مدداً أميركياً في المعركة التي كان الروس أنفسهم قد افتتحوها بإرسال مقاتلاتهم لتغير أكثر من خمسين مرة على معاقلهم في بصر الحرير وحدها. في الحقيقة، لم يتّسع الوقت كثيراً أمام المجموعات لكي تقرأ الرسائل الأميركية التي انتقلت بسرعة من تهديد الجيش السوري بالرد بالقوة على أيّ هجوم جنوباً إلى التخلي الكلي عن الفصائل الجنوبية، ولم يتسنّ لها ما يكفي من الوقت لكي تستثمر في التحذير الأميركي للجيش السوري قبل أسبوع أو تتحصّن في رفضها لكل ما عرضه الروس عليها من مصالحات وتسويات. الروس لم يتأخروا في تقديم عروض إلى المسلحين من أجل فتح معابر لخروج المدنيين من شريط القرى المحاصرة في شرق درعا نحو القرى المحاذية لها غرب السويداء، الواقعة تحت سلطة الدولة السورية. كذلك، توصل الجنرال الكسندر روزين، قائد العمليات الروسية في سوريا، فور انطلاق الهجوم، إلى تسوية مع ٣٥٠ مقاتلاً من «ألوية العمري» في منطقة اللجاة، أعلنوا انضمامهم إلى الجيش السوري لقتال الارهابيين.
كانت واشنطن حتى الساعات الماضية لا تزال تعتبر هذه المنطقة مشمولة بتفاهم لا يمسّ، وهو التفاهم اليتيم الذي قيّض للرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين أن يجرياه في لحظة تقارب نادرة أفلتت من رقابة البنتاغون خلال لقائهما في تموز من العام الماضي في هامبورغ، وقبل أن يلتقي العقيد تازارف بالدبلوماسي غرين، ويستبدلا تفاهم الكبيرين بتفاهم اكثر واقعية ووضوحاً، ضحيته الأولى فصائل الجنوب التي صدقت الضمانات الأميركية.
المؤشرات على وجود ذلك التفاهم، ومدّ سيطرة الجيش السوري حتى خط وقف إطلاق النار بين الجولانين السوري والمحتل، سبقت اجتماع «التاسك فورس» في جنيف، وحتى قبل لقاء ترامب ببوتين. وظهرت المؤشرات مبكراً في النصائح الاميركية الكثيرة للمعارضة السورية المسلحة باغتنام أي فرصة للتفاهم مع الروس. ويقول القيادي في «الجيش الحر»، فاتح حسون، إن «مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد ساترفيلد، نصحنا في أستانا نهاية العام الفائت بالاستفادة من العروض الروسية، لأن الإدارة الأميركية ستوقف دعم الفصائل في الجنوب والشمال».
بيّنت الرسالة الأميركية الأولى لفصائل الجنوب أنها لم تضعهم في صورة التفاهمات مع الروس


من جانبه، ثمة إضافة من قبل رئيس مؤسسة السلام في الشرق الاوسط، وصاحب علاقات واسعة في أميركا وإسرائيل، جيفري أرونسون. الأخير قال لـ«الأخبار» إن التفاهمات الأميركية ــ الروسية «كانت موجودة في كل منعطفات الأزمة السورية، على رغم كل ما ينتابها من توتر. وإذا ما نظرنا إلى الثلاث سنوات الماضية، فسنجد أننا كنا أمام تفاهم فعلي إلى حدّ مقبول بين أفرقاء النزاع حول كيفية خوض الحرب في الجنوب، لذلك نحن إزاء صفقة في الجنوب قائمة منذ مدة، ويتمتع الإسرائيليون بموجبها بحرية حركة في الجو. أما الروس والإيرانيون، فقد حرصوا على عدم الإخلال بأيّ من قواعد اللعبة، بينما بقيت الدولة السورية خارج الصفقة». ويضيف أرونسون أنه «عندما نتكلم عن المستقبل ينبغي الاستناد إلى إنجازات الماضي. إن المبالغة في احتمالات الصدام بين الأطراف لا تأخذ بعين الاعتبار هذه الانجازات. وعندما ننظر إلى المستقبل، فإن العناصر التي أدت إلى التوصل إلى تلك التفاهمات لا تزال فاعلة. إذا نظرنا إلى الإيرانيين وحزب الله، فإنهم شديدو الحذر في انتشارهم جنوب سوريا. لا النظام ولا الروس ولا إسرائيل ولا الأميركيون يؤيدون انتشاراً عسكرياً دائماً للإيرانيين وحزب الله في سوريا، وفي الجنوب بشكل خاص. لذلك، فإن جهود الإسرائيليين والأميركيين لاحتواء ذلك الانتشار، هو كمن يحاول اقتحام أبواب مفتوحة».
لم تتضح مضامين التفاهمات حتى الآن، لكنّ الصيغة التي يمكن الحديث عنها لم تعد بالتأكيد تشبه الصيغة الأولى التي جرى تداولها وفشلت. كانت تلك الصيغة ترتكز على عودة الجيش السوري إلى الانتشار في الجنوب وفق اتفاقية وقف إطلاق النار لعام ١٩٧٤، ومواجهته «داعش» في حوض اليرموك، وتسليم المسلحين أسلحتهم الثقيلة والخفيفة، وتحويل جزء منهم الى قوات محلية بإمرة الجيش السوري، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية في مناطق المصالحة. يومها اشترط الأميركيون والإسرائيليون على الروس، لتسهيل العملية، انسحاب مقاتلي حزب الله والحرس الثوري الإيراني وقوات رديفة لمحور المقاومة من القنيطرة ودرعا، أي الابتعاد عن خط وقف إطلاق النار بين الجولانين المحتل والمحرر، وعن خط الحدود الأردنية السورية، في منطقة فاصلة تمتد ما بين أربعين إلى ستين كيلومتراً، وهي المسافات نفسها التي كانت قد طرحت في اجتماع أستانا في حزيران الماضي، والتي رفضتها دمشق وحزب الله وإيران آنذاك، علماً بأنه جرى البحث في عودة القوات السورية إلى إدارة معبر نصيب مع الأردن والذي أصابت خسائره الأردن أكثر مما أصابت سوريا. وخسرت عمان ما يقارب ٣٧٠ مليون دينار من عائدات سنوية.
وفي جانب متصل، وبقصد إحداث توازن في المنطقة الجنوبية، طرح محور المقاومة عبر الروس انسحاب القوات الأميركية من قاعدة التنف باعتبارها جزءاً من المنطقة الجنوبية، في ما يشكل استجابة إضافية لما قاله ألكسندر لافرنتييف، مندوب بوتين، بضرورة خروج القوات الاجنبية من سوريا. وفي ذروة التباين مع الحلفاء، تركت الأسابيع الماضية انطباعاً جدياً بوجود خلافات روسية ــ سورية ترافقت مع ضغوط على حزب الله وإيران لتسهيل الصفقة في الجنوب، كي يستكمل الروس فرض قواعد اللعبة على الطوق الدمشقي من الغوطة حتى الجولان، حيث أداروا المصالحات وعمليات الاجلاء فيها، مع العمليات الجوية، لتحييد أي نفوذ إيراني داخل الطوق وتحقيق مسعاهم الحقيقي من خلال التقاطع مع الأميركي والإسرائيلي بشكل خاص.
يقول أرونسون إن «العلاقات الروسية الإسرائيلية أثبتت مرونتها وقابلتيها للتعاون والتكيّف مع التطورات الميدانية والسياسية. هي ليست علاقات حب، ولكنها ذات طابع (كيسنجري)، قاعدتها المصالح لا العواطف، وقد برهنت عن فعالية عالية. لقد رتبت العلاقة بطريقة تحفظ فيها إسرائيل علاقاتها الخاصة بالولايات المتحدة».
أما عن المصالح المشتركة، فيقول إنها «متمثلة في استعادة الدولة السورية لسيادتها في ظل النظام الحالي. وأعتقد أنهما متفقان على ذلك، وهما يتفقان أيضاً على منع حزب الله وإيران من مراكمة عناصر القوة، وامتلاك حق الفيتو والتحكم في قرار الحرب والسلم في سوريا، كما أعتقد في ما يتعلق بالمسائل الاستراتيجية في الجنوب أنهم على موجة واحدة أيضاً». تسمح العمليات بجلاء نقطة مهمة في تفاهم الروس مع الأميركيين في الجنوب السوري، خصوصاً سعي الولايات المتحدة إلى فصل مسألة قاعدة التنف وإخلائها عن الجبهة الجنوبية، واعتبارها جزءاً من ملف شرق الفرات، والإبقاء عليها ورقة بيدهم، واستخدامها للضغط على حزب الله وإيران ومحور المقاومة، بالبقاء على مقربة من طريق بيروت – دمشق ــ بغداد ــ طهران، ومشاركة روسيا في إدارة مستقبل التسوية في سوريا.