تراجعت لغة الحزم في المقاربة الإسرائيلية للجنوب السوري مع إشارات دالّة على استراتيجيات مغايرة بدأت تتضح تباعاً، وهي مبنية على موقف دمشق الصارم والإصرار والتوثب العسكريين السوريين في مواجهة المسلحين جنوباً، مع إدراك إسرائيلي، كما يبدو، حدود القدرة وهامش تفعيلها، في مواجهة الأعداء.يأتي «التراجع» الإسرائيلي في سياق، وربما بسبب، إشارات دالة في الموازاة والمقابل، من الجانبين الأميركي والروسي، تشير إلى إرادة عدم المواجهة أو التسبّب في ما من شأنه الدفع باتجاه المواجهة. من الجانب الروسي، تمثّل ذلك بغارات شنّتها القاذفات الروسية على المسلحين في مناطق متفرقة من الجنوب، للمرة الأولى منذ اتفاق وقف إطلاق النار في تموز 2017، فيما أرسلت الولايات المتحدة رسالة، بحسب وكالة «رويترز»، تبلغ فيها المسلحين أن لا يتّكلوا عليها في منع العملية العسكرية المقبلة في الجنوب السوري.
من ناحية إسرائيل، برزت جملة إشارات ومواقف، كلامية وعملية، دلّت على التراجع. وبحسب تسريبات الإعلام العبري (موقع «واللا»)، يستعد الجيش لليوم الذي يلي إعادة فرض الجيش السوري سيطرته على الجنوب السوري، بما يشمل الحدود في الجولان. رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، أهارون هليفا، جال على الحدود مع سوريا في اليومين الماضيين، وتفقد الوحدات العسكرية فيها «من أجل فحص واختبار مستوى التأهب لليوم الذي يلي»، وبحسب التسريبات عن الزيارة وأهدافها من أجل التأكد من «الاستعداد الأمثل لمرحلة ما بعد تغيير الواقع على الحدود بشكل كبير».
التراجع الإسرائيلي برز أيضاً في جملة الأسئلة المطروحة على طاولة بحث الجيش الإسرائيلي، والذي جرى تسريبه بوصفها أسئلة تمثّل رسائل تحذير يجب عدم تجاوزها خلال المعركة المقبلة مع المسلحين. رسائل موجهة إلى الجانبين الروسي والسوري، وتأمل إسرائيل أن تراعى من جانبهما، خلال مرحلة القتال المقبلة.
المصادر العسكرية الإسرائيلية تسمي هذه الأسئلة «الأسئلة الثقيلة» في دلالة على أهميتها، وتحديداً ما يتعلق بحجم ومدى استخدام سلاح المدفعية السوري وضرورة تجنب انزلاق القذائف إلى الجانب الإسرائيلي، إضافة إلى ضرورة الامتناع عن «العدوانية التكتيكية» للقوات البرية السورية ودفع للإضرار بالسياج الحدودي. كذلك، مع التأكيد على ضرورة العمل على منع اندفاع المسلحين إلى الحدود، إذ بحسب التسريبات الإسرائيلية «من غير الواضح كيف يمكن للمتمردين الفرار إلى الأردن أو محاولة الاندماج مع المدنيين في مخيمات اللاجئين أو في سيناريو متطرف اقتحام الحدود الإسرائيلية كخيار أخير أمام العملية العسكرية السورية».
وضمن التحضير الإسرائيلي للمواجهة السورية المرتقبة ضد المسلحين، وبناءً على سياسة التخلي عنهم بعد سنوات من الاعتماد عليهم وعلى خدماتهم، عمدت تل أبيب إلى جملة إجراءات جرى تسريبها عبر الإعلام العبري، وإن حاولت تل أبيب إلباسها لباس التخطيط العسكري الاحترازي لمنع شن عمليات عليها انطلاقاً من الحدود وبمناسبة القتال المرتقب. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي ايزنكوت، أمر وحداته المنتشرة على الحدود «بتقليص» عدد الواردين إلى الشريط الشائك طلباً للمساعدة الطبية. وهو الأمر الذي يخفي في طياته قرار التخلي الكامل عن المسلحين، ومنع الطبابة عنهم، في تسليم واضح للواقع الجديد المقبل على التشكل بشكل مغاير، على الحدود السورية. هذا هو الهدف من الإجراء الجديد، سواء أدخل في ديباجته التهديد الإيراني كما قيل إسرائيلياً أو لم يدخل.
وحاولت إسرائيل في الفترة الأخيرة التوصل عبر «الصديق» الروسي إلى اتفاق، ينهي بموجبه الجيش الإسرائيلي وجود الجماعات المسلحة في الجنوب السوري، وصولاً إلى الحدود، مقابل تحقيق الحد الأقصى من مصالح إسرائيل، رغم أنها جاءت متطرفة ومتطلبة جداً، لم يرض ويقبل بها الجانب السوري. في حينه، كانت لهجة إسرائيل حاسمة جداً مع شبه «تعجرف» في طرح المعادلات، التي وصلت بها إلى طلب مقايضة بسط الدولة السورية سيادتها على الجنوب السوري، مقابل تخليها عن حليفها الإيراني وإخراجه من كل الأراضي السورية.
بعد فشل الاتفاق، نتيجة «الفيتو السوري» عليه، عادت إسرائيل إلى مربع «المعقولية» والمطالب والشروط الأكثر منطقية، سواء قبلت الدولة السورية بها أو رفضتها. بحسب تسريبات الإعلام العبري، أمس، (موقع «واللا»)، فإن القيادة السياسية في إسرائيل، بمؤازرة من كبار المسؤولين العسكريين ووزارة الأمن، أرسلت إلى الدول ذات العلاقة والتأثير، بما يشمل الجانب الروسي، رسالة واضحة جداً: إسرائيل لا تنوي التنازل عن مطلبها في مساحة خالية من عناصر إيرانية وحزب الله. وهو طلب، يشير بطبيعته قياساً بالمطالب والشروط السابقة، إلى تراجع كبير جداً في الموقف. إشارات التراجع الإسرائيلية واضحة وبيّنة، وهي دالة ما لم يحدث ما يغير هذا التقدير، على أن المواجهة مقبلة مع المسلحين وأن دورهم قد انتهى، وأن التخلي عنهم هي وجهة رعاتهم لمقبل الأيام. هل هذه هي نتيجة واقع فرض على إسرائيل وحلفائها فرضاً وباتت في تموضع مغاير يجبرها على التكيف معه والعمل على الحؤول ــ قدر الاستطاعة ــ دون توسع تداعياته السلبية عليها؟ أم أنه نتيجة اتفاق مغاير للاتفاق الأول، لم يراع مصالحها كما أرادت، وفرض عليها القبول به دون القدرة على الوقوف في وجهه؟ النتيجة قد تكون واحدة، وتحديداً ما يتعلق باليوم الذي يلي هزيمة المسلحين في الجنوب، وبسط الدولة السورية سيادتها حتى الحدود الدولية. إن صحت دلالات الإشارات الإسرائيلية، فسيكون الجنوب السوري واستعادته فصلاً من فصول حرب خسرتها إسرائيل وحلفاؤها، وتشي بخسارة الحرب الجديدة التي أرادتها في الساحة السورية، بعدما خاضتها بضراوة وأمل، طوال سبع سنوات، ومن اليوم الأول، أن يسقط الرئيس بشار الأسد، ومع سقوطه، ضعف وربما سقوط محور أعدائها.